البهلوان!

الدار البيضاء اليوم  -

البهلوان

بقلم : رشيد مشقاقة

لم تخف أحوال القضاة على الخلفاء زمنا، ولم يكن الخليفة بحاجة إلى قاضي القضاة كي يحيل عليه الملف الإداري للقاضي، وليسمع رأيه واقتراحه فيه، فهو محيط بالقطاع، مالك لسكناته وحركاته، وهو رئيس السلطة القضائية ماضيا وحاضرا، وله إذا أراد أن يقف على الحقيقة فعل، ورمى بِعَرْض الحائط أضغاث أحلام نَشَرَات التنقيط إشادة أو إساءة!

احترم الخليفة القاضي المستقل، ولم يغضب الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، عندما أجابه قاض عن دعوته له بالحضور قائلا: “القاضي يُؤتى ولا يأتي“، وجلس الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين يدي القاضي قائلا: “أنا من يجب أن يأتيك لا أنت“!

لم ينخدع الخليفة بما قد يُدبج القاضي من كتب في الأدب والفقه والشعر والفلسفة، فهو حَكَم بين الناس وعدله أولى من فكره، فإذا خشي على حقوق الناس من الضياع، أجلس المظلوم بجانبه بديوانه، واستدعى القاضي المتهافت، حتى إذا رَأَى ضيف الخليفة أصدر الحكم يوم غد لصالحه، خوفا من الخليفة لا من الله عز وجل!

وقف الخلفاء على القضاة المتملقين، مَاسِحِي الأحذية، المتهافتين على المناصب، وقال أحدهم للقاضي: أنا اشتريت ذات الثوب الذي ترتديه بثمن أقل مما تدعيه أنت للناس، فرد القاضي المتملق: يا سيدي أنتم تزينون الثياب فتُبخسون ثمنها، ونحن نتزين بالثياب فَنَرْفَع ثمنها، فأدرك الخليفة أن قاضيه سَلِسٌ، سهل الاستعمال والاستغلال والتصرف ففعل به ما أراد!

واجتهد كبار القضاة في زمن الخلافة في إرضاء الخلفاء، وأبدعوا في ما يرفع عن الخليفة أوزار أخطائهم.

فعندما زمجر الخليفة في وجه زوجته قائلا:

ـ أنت طالق مادامت في أرضي، استنجد بالقاضي أبي يوسف بعد أن عاد إلى صوابه، كي يكفر عن ذنبه، فحك أبو يوسف رأسه وقال له:

ـ لِتُقِم طَلِيقَتُكَ بالمسجد فهو بيت الله وليس أرضك. فجازاه عن اجتهاده بدنانير وفاكهة وهلم جرا!

لم يكن من باب الصدفة أن يقترب القضاة من دواوين الخلفاء، فقد استفاد منهم الحكام العادلون في تصريف أمور الدين والدنيا، واستقرت أرض الخلافة بانتشار العدل، وازدهار العلوم فكرا أو أدبا وفلسفة، وظلوا قضاة مدى الحياة وعاصروا أكثر من خليفة، وكان مبرر استمرارهم على ناصية القضاء قيد حياتهم متصل بِثِقْلِ وزنهم الخُلُقِي والمعرفي واطمئنان الناس إلى فتاويهم وقضائهم ومواقفهم، وسجل التاريخ حافل بنماذج من هؤلاء.

ولم يكن، أيضا، من باب الصدفة أن يقترب قضاة آخرون من دواوين خلفاء آخرين، استعملوهم في ما لا يرضي الله، وأغدقوا عليهم من رزق العباد، ووجدوا مناعتهم هشة فداعبوها، هم أيضا امتدوا بكراسي القضاء مدى الحياة، يعتقدون أن نشرة التنقيط المحبوكة هي من لها الفضل في ذلك، ونَسُوا أنَّ منظار الخلفاء والملوك كزرقاء اليمامة يراهم من بعيد، ويملك أسرار ما يدور برؤوسهم وبطونهم، ولو شاؤوا مواجهتهم بذلك لما استعصت لهم نظريات قاضي القضاة في ذلك الزمن ولا تزكيات ذوي النفوذ، هم صرفوا النظر عن ذلك لأسباب شَتى، فقد يكون القاضي من زمام تركة ضاربة في الزمن، أو لا يسلم شره متى عزل من منصبه، أو أن اقتناع الخليفة أن اسْتِشَراءَ فساد الذمم سيطيح بجهاز قضائي كامل في ذلك الزمن، فعالج الأمور بالروية والتؤدة وبعد النظر، وآثر أن تنتهي مهمة هذه الفصيل القضائي بالوفاة لا بإعفائهم أو إقالتهم أو عزلهم. قد تختلف المصطلحات بين زمن غابر وزمننا، لكن الموضوع في كلا الزمنين واحد، فقد سقط قاض كبير من عين سلطان حكيم عندما قال له:

ـ سيدي أعزك الله، افعل بي ما تشاء، أنا طوع بَنَانِكَ!

فرد عليه السلطان ساخرا:

ـ أنت قاض، ولا ينبغي أن تقول وتفعل ذلك.

لدينا من هم بيننا طوع البنان، المستمسكون بحبل الكرسي القضائي، الذي يحيطون أنفسهم بأسباب العلم والمعرفة دهاء ورياء ونفاقا!

هم لا يقرؤون التاريخ جيدا، ولا يذكرون حكاية ذلك القاضي الإمام، عندما تسلل أحد الظرفاء إلى بيته ليلا، ورسم على وجهه صورة البهلوان، وفوجئ المصلون عند صلاة الفجر بالقاضي الإمام يؤمهم على تلك الحال! فأنكروا عليه ذلك، فصاح الفاعل من خلف صفوف المصلين قائلا:

ـ أنا من فعلت ذلك، لأثبت بالفعل، أن قَاضِينَا وإمَامَنَا لا يتوضأ استعدادا للصلاة، أنتم الآن أمام بهلوان سرك وليس أمام قاضي المدينة!

المصدر : جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

البهلوان البهلوان



GMT 04:53 2017 الأربعاء ,17 أيار / مايو

غَنِّي لِي شْوَيَّ وْخُذْ عينيَّ!

GMT 04:46 2017 الأربعاء ,10 أيار / مايو

السَّمَاوِي!

GMT 05:44 2017 الأربعاء ,03 أيار / مايو

شُفْتِنِي وَأَنَا مَيِّت!

GMT 05:01 2017 الأربعاء ,26 إبريل / نيسان

القاضي الشرفي!

GMT 04:55 2017 الأربعاء ,19 إبريل / نيسان

لاَلَّة بِيضَة!

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج

GMT 16:52 2015 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

كمبوديا تستخدم الجرذان في البحث عن الألغام

GMT 04:44 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميم مجمع مباني "سيوون سانغا" في عاصمة كوريا الجنوبية

GMT 06:28 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

خبير إتيكيت يقدم نصائحه لرحله ممتعة إلى عالم ديزني

GMT 12:22 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل 7 على الأقل في قصف جوي ومدفعي على حي الفردوس في حلب

GMT 04:48 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير الوليد بن طلال يؤكد بيع أسهمه في "فوكس 21"

GMT 22:13 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

منتخب غانا يهزم نظيره المصري في بطولة الهوكي للسيدات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca