الفـــارق..!

الدار البيضاء اليوم  -

الفـــارق

عبدالله الدامون

عوّدنا أن نقول إن المغرب يوجد على مرمى حجر من أوربا، ولا تفصل بينه وبين إسبانيا سوى أربعة عشر كيلومترا، هي كل مسافة مضيق جبل طارق. وهذا كلام نردده للعب به في الاتجاهين، إما للتنكيل بأنفسنا ومقارنة تخلفنا الكبير بالتقدم المذهل لأوربا، أو زرع الأمل في النفوس واعتبار مسألة التقدم قضية وقت ليس إلا.
في العقود القليلة الماضية كان المغاربة المتنورون يقولون إن دليل تقدمنا المستقبلي هو أن يعبر المسافر من ميناء الجزيرة الخضراء في إسبانيا نحو الضفة المغربية فلا يجد فارقا بين المكانين، وهذا حلم قد نستمر في انتظاره سنوات طويلة جداً، لكن هناك من يتفاءل ويقول إننا وصلنا إلى هذه المرحلة من زمان، والدليل هو تلك المناطق الساحلية بين تطوان وسبتة. المغاربة عادة ما يصفون سبتة بأنها مدينة محتلة، لكن التطوانيين يطلقون عليها اسما طريفا جداً، هو «تطوان مشْطّبة»، وهو وصف على قدر كبير من الدقة، لأن سبتة تتفوق على تطوان، بل على كل المدن المغربية، في كونها نظيفة وأنيقة ومنظمة، ومن الطبيعي أن تكون كذلك.. لأنها محتلة.
لكن اليوم تغيرت أشياء كثيرة في المنطقة، والذين يزورون هذا المكان لأول مرة، منطلقين من تطوان نحو سبتة، قد لا يصدقون أنهم في المغرب، بل قد يعتقدون أنهم دخلوا سبتة قبل الأوان. في المناطق بين تطوان وسبتة كل شيء متطور. الطريق فسيحة وأنيقة، والغابات والمناطق الخضراء شاسعة على امتداد البصر، وزرقة البحر على مرمى حجر، والشواطئ نظيفة برمال ذهبية، والكورنيشات مضاءة طوال الليل، والشرطة في كل مكان والأمن شبه مطلق. 
على جانبي الطريق قصور وفيلات تصيب إسبان سبتة بالغيرة، وهناك مجمعات سكنية ليست كغيرها، إنها قطع من السكينة والهدوء، الداخل إليها موجود والخارج منها مفقود، والأضواء على جوانب الشوارع تعطي الانطباع للعابرين وكأن الأعياد الوطنية مستمرة طوال العام، والمطاعم والمقاهي نادرة، لكنها فاخرة، وعلى بعد أمتار من الطريق الرئيسي يوجد الطريق السيار لمن أراد أن يختصر الوقت، لكن الناس يفضلون الطريق العادي لأنه يتفوق في كل شيء على الطريق السيار.
المدن الصغيرة ما بين تطوان وسبتة لا تشبه كل المدن. في المضيق، مثلا، ينعم الناس بهدوء ظاهري على الأقل، وقانون السير يحترمه الراجلون والسائقون بشكل صارم، والناس يقضون المساء على الكورنيش يستمتعون بالنزهة على شاطئ البحر أو بتناول السردين الطري في الميناء، وكثير من إسبان سبتة يأتون إلى المكان لأنهم يجدون فيه ما لا يجدونه في سبتة. وفي بلدة الفنيدق، المجاورة لسبتة، لا شيء يذكّر بالماضي، فهذه البلدة التي كانت تشبه الكارثة، تبدو، في ظاهرها على الأقل، أنيقة وجميلة ومنظمة، خصوصا إذا توقف المرء عند شارعها الرئيسي ولم يغامر بالولوج إلى عمقها.
على مرمى حجر من الفنيدق توجد سبتة، والذين يدخلونها قد يجدونها عادية مقارنة بالطريق المبهر الذي سلكوه انطلاقا من تطوان. هكذا يبدو أن الحلم تحقق، وأن سبتة «الأوربية» لا تتفوق في شيء على جاراتها في المغرب، فلا يكاد يوجد فارق. لكن الفارق موجود، موجود بشكل مهين وقاس، فالفارق ليس في الشوارع الفسيحة والأضواء الساحرة والقصور والفيلات الفارهة، الفارق موجود في الإنسان، لذلك فإن عشرات الكيلومترات المبهرة بين تطوان وسبتة تموت في مساحة عشرين مترا لا غير، هي كل المسافة بين جمارك المغرب وجمارك الإسبان في النقطة الحدودية «تاراخال».
في هذا المكان يبدو الفارق الحقيقي. عشرات الآلاف من النساء المغربيات يتحولن إلى مجرد «بغْلات» وهن يتلقين يوميا إهانات لا يتحملها مخلوق بشري. قرابة ثلاثين ألف امرأة من مختلف مناطق المغرب يصبحن مجرد كائنات حقيرة في عيون الأمنيين الإسبان والمغاربة معا. الإسبان يعطون الهراوة والمغاربة يأخذون العلاوة. الإسبان يضربون ويشتمون، والأمنيون المغاربة يشتمون ويأخذون. كل صباح تدفع هؤلاء النسوة البئيسات رشاوى عند كل عبور، والمبلغ الإجمالي يصيب بالدوار، وأكيد أن أولئك المرتشين لا يأخذونه كاملا، بل يقتسمونه مع آخرين. كل المسافة الاستعراضية بين تطوان وسبتة مجرد وهم ولا تعبر عن أي فارق، لأن الفارق الحقيقي موجود هنا، في نقطة «تاراخال»، حيث التخلف المغربي يراه العالم أجمع، وحيث تصبح عبارة «سبتة المحتلة» مجرد ديماغوجية مقززة، لأن المغرب هو من يمد سبتة بأسباب البقاء، ولو توقف هذا التهريب لانتهت منذ زمان أسطورة «سبتة المحتلة».
هذا الفارق البشع في هذه النقطة الصغيرة ليس سوى اختزال جغرافي لفارق عظيم في كل مكان. فبلدة الفنيدق المجاورة اغتنى مسؤولوها ومنتخبوها الفاسدون بالمتاجرة بشواهد السكنى المزورة، وتلك الطريق المبهرة بين تطوان وسبتة صارت كذلك لأن من يسكنونها ليسوا من «أيها الناس»، بل كثير منهم تجار مخدرات ومبيضو أموال ولصوص مال عام. وفي كل مدينة أو قرية مغربية توجد أسواق رائجة تحمل أسماء مثل «سوق سبتة» أو «سوق مليلية»، وعوض أن نحرر سبتة ومليلية وقعنا في ظل احتلالهما.  هذا هو الفارق الحقيقي، فارق لن نقضي عليه بتحويل مناطق صغيرة إلى تحف مزدهرة ظاهريا، ولن نقضي عليه باسترجاع سبتة ومليلية، بل باسترجاع
أنفسنا!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الفـــارق الفـــارق



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca