في تنوع الحداثات

الدار البيضاء اليوم  -

في تنوع الحداثات

يوسف بلال

العديد من الحركات الثقافية والقوى السياسية تدعي أن مشروعها الفكري والمجتمعي يدور حول الحداثة، ويميزها عن قوى أخرى غير حداثية. وفي كثير من الأحيان، عندما يتكلمون عن الحداثة، يشيرون إلى التجربة الغربية، ويسعون إلى استنساخها في العالم العربي. وفي المغرب جزء كبير من النخبة  يعتبر أن الحداثة هي أن تتكلم اللغة الفرنسية وأن تكون علمانيا، مع الإشارة إلى الكاتب الفرنسي فولتير، وأن تحتقر الهوية العربية الإسلامية، وأن تحدد التنمية الاقتصادية في مجموعة من التقنيات التدبيرية المستوردة من أوربا. وهذا التصور للحداثة خطير لأنه يعبر عن حالة اغتراب وكراهية للذات، كما يدل على جهل تام لتاريخ الحضارة الإسلامية. وهذا الفهم الضيق للحداثة قد يفسر بتأثير الفكر الفرنسي على أغلبية النخبة المغربية التي تتصور الحداثة بأعين فرنسية، ولم تنفتح على لغات وتجارب أجنبية أخرى. صحيح أن الحداثة تشير إلى العديد من التحولات الجذرية والهيكلية التي عرفتها أوربا منذ القرن الخامس عشر، والتي غيرت علاقة الإنسان الأوربي بواقعه. ويمكن فهم الحداثة من زاوية مختلفة بما فيها زاوية الاقتصاد مع تطور الرأسمالية، والسياسة مع ظهور مفهوم السيادة والديمقراطية التمثيلية، والدين مع تقليص سلطات الكنيسة ودورها في تسيير المجتمع. لكن هذه التطورات التاريخية لا تشكل مشروعا سياسيا مندمجا ومنسجما بالنسبة لمجتمعات أخرى، بل يتم رفضه إذا فرض بالقوة في إطار علاقة هيمنة كما وقع أيام الاستعمار الأوربي، أو حاليا مع الاستعمار الجديد. وفي الواقع، الحداثة هي الفترة التاريخية التي تعيش فيها النخب المستعمرة منذ القرن التاسع عشر، والتي تطرح سؤال الوجود والمستقبل انطلاقا من علاقتها بالغرب، حيث ترى الفوارق الاقتصادية والتكنولوجية بينها وبين الغرب، وتبحث عن أفضل الوسائل لتقليصها وهي تحافظ، في آن واحد، على هويتها. إن هذا السؤال الوجودي لا الجواب عنه هو صميم الحداثة بالنسبة للمجتمعات غير الغربية. إذن، السؤال واحد، والأجوبة متنوعة. صحيح أن هناك قاسما مشتركا بين المشروعين اليساري والإسلامي الأصليين لأنهما يسعيان إلى تخليق السياسة وتحرر الإنسان والحفاظ على كرامته،  لكن هناك جوابا يساريا لسؤال الحداثة عن طريق الاقتصاد وتملك وسائل الإنتاج، وجوابا إسلاميا لنفس السؤال انطلاقا من التجديد الديني. وهذان المثالان يدلان على إمكانية تنوع الحداثات، كما تبين ذلك التجارب الدولية الأخرى مثل تركيا، والهند، والبرازيل وإيران. إن هذا التنوع مرتبط بقدرة الشعوب على الدفاع عن حقها في الإبداع التاريخي، حيث إمكانية تعدد الحداثات لا تعني الانكماش على الذات أو رفض الآخر، وإنما تعني التعامل بشكل جدلي مع الآخر وتسمح للمجتمعات غير الغربية بأن تبني اقتصادا قويا وفي نفس الوقت، تحافظ على هويتها وكرامتها وتغير علاقتها بالغرب المهيمن. 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في تنوع الحداثات في تنوع الحداثات



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca