شرطي في الرأس!

الدار البيضاء اليوم  -

شرطي في الرأس

بقلم : جمال بودومة

لم يعد من السهل أن تكتب عمودا أو افتتاحية في الصحافة المغربية، خصوصا إذا كنت ممن يعتقدون أن الكلمات لابد أن تخرج من الأحشاء، وأن الأصبع لابد أن تشير إلى اللص، وأن الصحافة سلطة رابعة لا تسيّر بـ”التيليكوموند”. الإعدامات التي طالت عددا من الجرائد، والتصفيات التي تعرض لها الصحافيون المزعجون، خلال العقد الأخير، باتت كابوسا يطارد من قرروا مواصلة المشوار، وأصبح في رأس كل واحد منهم شرطي، ينظم مرور الكلمات ويوقف الجمل في الطريق كي يفحص الرخص والأوراق قبل أن يتركها تمر…
قبل سبع سنوات، مثلت كتيبة من الصحف أمام القضاء، لأنها تجرأت وعلقت على بلاغ خرج من القصر، يتحدث عن وعكة صحية ألمّت بالملك، ورغم أن الأطباء قللوا من خطورة ما شُخّص وقتها على أنه “روتافيريس”، فقد تبين أن الأمر يتعلق بمرض فتاك أودى بحياة أكثر من منبر إعلامي، على رأسها “الجريدة الأولى” التي كان عبد ربه يكتب فيها عمودا يوميا، قادنا إلى المحكمة مع الزميل علي أنوزلا، مدير الجريدة، لأننا تجرأنا وتحدثنا عن مرض آخر لا يقل خطورة، اسمه “الكورساكوف”، بعد أن كشفت “لاماپ” أنه “الدافع الرئيسي” الذي جعل المرحوم حسن اليعقوبي، زوج عمة الملك، يطلق الرصاص على شرطي مرور أوقفه بسبب مخالفة سير، مما جعله يتمتع بالسراح وسط ذهول الرأي العام.
قبل عامين، دافعت عن الحبيب الشوباني وسمية بنخلدون حين قررا الزواج وسحلتهما الصحافة الصفراء وحميد شباط. اغضبني التجريح الذي تعرضت له الوزيرة المحترمة، فقط لأنها امرأة، وكتبت في “المساء” عمودا تحت عنوان: “ألسنة قذرة”، يدعو إلى احترام الحياة الخاصة للوزيرين. انتهى الفيلم، كما نعرف، بـ”الهاپي آند”، وتزوج الحبيب حبيبته، فيما وجدتني أمام المحكمة أدفع عن نفسي تهمة السب والقذف في حق الدكتور شباط!
الصحافة مهنة جاحدة، لا نربح منها إلا المشاكل، خصوصا في البلدان التي لا تفرق بين الإعلامي والطبال. خلال العهد الذهبي للصحافة المستقلة، كنا نضحك عندما نسمع أحدا يسميها “مهنة المتاعب”، لأن الصحافي كان ملكا، يكتب ما يشاء دون خطوط حمراء، ويتقاضى أجرا محترما في أخر الشهر، كانت الافتتاحيات لا تتردد في انتقاد الملك وإعطائه الدروس والإرشادات، تطلب منه ان يقتدي بالتجربة الإسبانية، وأن يسود ولا يحكم، وأن يحسن من أدائه التواصلي، وتسأله: “فين غادي بيا خويا؟”… قبل أن تدوي صفارة تعلن “نهاية اللعبة”، ويبدأ “عمال النظافة” في غسل المشهد عن آخره بـ”جافيل” والماء القاطع، وتعدم الصحف المزعجة، واحدة تلو الأخرى، في الساحات العامة، كي تكون عبرة للآخرين!
بإمكانك اليوم أن تبصق على الحكومة ورئيسها، وتضرط على البرلمان بغرفتيه، وتتبول على الأحزاب… لكنك لا تستطيع الاقتراب من مركز السلطة الحقيقي، ومجرد الحديث عن مستشار ملكي يمكن أن يؤدي إلى السجن أو إلى غرامة خرافية، لذلك أصبحت المنابر الإعلامية أليفة جداً، لا تخرج مخالبها إلا للفتك بالمعارضين، إرضاء لأولياء النعمة.
لقد تراجعت حرية الصحافة في المغرب خلال السنوات الأخيرة بشكل مخيف. الخطة كانت محكمة: بعد أن بات الصحافيون يقضون في غرف المحاكم أكثر مما يمضونه في غرف التحرير، اضطر كثير منهم إلى مغادرة البلاد، أو تغيير المهنة أو التوقف عن الكتابة أو استعمال ماء الورد بدل المداد الأحمر، كي يستطيعوا التكيّف مع الوضع الجديد، ولا يجرفهم المستنقع الذي ملأته الطحالب.
بعد أن كان الصحافيون الحقيقيون يفرضون سقفا عاليا من الحرية، بات أشباه الصحافيين يكتبون وهم منبطحون على بطونهم كي لا تصطدم جباههم العريضة بالسقف الجديد، السقف الخفيض الذي قطر بهم في السنوات الأخيرة. وكم أضحك عندما اقرأ بعض “الأعمدة” و”الافتتاحيات” أو أسمع بعضهم يتحدثون في الإذاعات والتلفزيون، فرحين بتفاهتهم، ولا أملك إلا أن أردد: “ملي كيشرفوالسبوعا، القرودا كيلبسو الطرابش”… لقد انسحب الصحافيون الأكفاء والشرفاء من الملعب، وتركوا الساحة للطبالة والغياطة والدقايقية والعيّاشة، يصولون ويجولون. لحسن الحظ أن “التفاهة لا تقتل”، كما يقول الفرنسيون، وإلا كنا اليوم نمشي متعثرين بين الجثث!

المصدر : جريدة اليوم24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شرطي في الرأس شرطي في الرأس



GMT 09:04 2019 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

جمال بدومة يكتب.. هذا الميت سيعيش طويلا!

GMT 05:15 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

قبل فوات الأوان!

GMT 05:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

دسائس البلاط

GMT 09:55 2019 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأمكنة أيضا تموت!

GMT 09:52 2019 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

الأمكنة أيضا تموت!

GMT 19:53 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 08:23 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجدي الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 18:00 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تشعر بالانسجام مع نفسك ومع محيطك المهني

GMT 15:27 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

توقيف فتاة كانت بصحبة شاب على متن سيارة في أغادير

GMT 03:00 2017 الإثنين ,02 كانون الثاني / يناير

أنطوان واتو يجسّد قيم السعادة في لوحاته الفنيّة

GMT 18:55 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تمرّ بيوم من الأحداث المهمة التي تضطرك إلى الصبر

GMT 20:15 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

افتتاح المهرجان الدولي لمسرح الطفل في رومانيا

GMT 12:01 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

وجهات منازل رائعة استوحي منها ما يناسبك

GMT 09:29 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

أفكار مختلفة لترتيب حقيبة سفركِ لشهر العسل

GMT 08:44 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منظمة "ميس أميركا" ترفع الحد الأقصى لسنّ المتسابقات

GMT 09:08 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

أفضل الطرق لتنسيق تنورة الميدي مع ملابسك في الشتاء
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca