كوبا أو نهاية الأحلام الجميلة

الدار البيضاء اليوم  -

كوبا أو نهاية الأحلام الجميلة

خيرالله خيرالله

تعود كوبا سنة 2015 دولة طبيعية. لم يعد مكان للأحلام الجميلة في عالمنا هذا. سيترتب عليها الانصراف إلى مشاكلها الداخلية، وإلى البحث عن صيغة جديدة للعلاقة مع الأخ الكبير.

تعود كوبا شيئا فشيئا إلى الحضن الأميركي الذي ليس بالضرورة حضنا دافئا. يحقّق باراك أوباما حلما يراوده منذ ست سنوات، أي منذ دخوله البيت الأبيض. لم يستطع تحويل الحلم إلى حقيقة إلّا في نهاية السنة 2014 بعدما نضجت التسوية مع الجزيرة العاصية.

قبل ذلك، كانت هيلاري كلينتون تحلم بأن يكون الاختراق الكوبي إبّان وجودها في وزارة الخارجية خلال الولاية الرئاسية الأولى لأوباما. لكنّ الظروف لم تساعدها في ذلك، كذلك رغبة أوّل رئيس أميركي أسود في أن يكون هذا الاختراق محسوبا عليه شخصيا.

تمرّدت كوبا على أميركا، لكنّها اضطرّت أخيرا للاستسلام، تماما كما استسلم الاتحاد السوفياتي. كلّ ما استطاع فيديل كاسترو عمله هو تأخير الاستدارة بضع سنوات.

خاض فيديل كاسترو مغامرة طويلة وجميلة مع “الإمبريالية”. كان الثوّار في أيّامه على شكل تشي غيفارا، وليس على شكل “داعش” السنّية والدواعش الشيعية.

العزاء الوحيد لفيديل كاسترو أن من استسلم للأميركيين كان شقيقه راوول الذي خلفه على رأس الدولة والحزب. صمد فيديل كاسترو الذي حكم كوبا منذ مطلع العام 1959، في وجه القوة العظمى التي هي على مرمى حجر من الجزيرة، قبل أن يتخلّى عن السلطة لشقيقه إثر تدهور وضعه الصحّي. عرف كيف ينخرط في الحرب الباردة إلى جانب الاتحاد السوفياتي الذي عرف بدوره كيف يستثمر في كوبا.. وإن على حساب رفاه شعبها. يمكن لفيديل كاسترو التباهي بأنّه صمد.

لم يتردد فيديل كاسترو في بيع الأحلام في أية لحظة من اللحظات. كان بائع الأحلام الكبيرة التي لم تصمد في وجه الواقع وفي وجه اقتصاد السوق و”الإمبريالية”، كذلك في وجه العجز عن استيعاب عقم التجربة السوفياتية في مرحلة باكرة.

كان لابدّ من العودة إلى أميركا ولو طال السفر. ورحلة العودة الكوبية إلى أميركا كانت طويلة، بل طويلة جدا. لاشكّ أن هناك أخطاء ارتكبتها واشنطن في تعاطيها مع الثورة الكوبية، وذلك منذ تمكن كاسترو من قلب الديكتاتور باتيستا. لكنّ كلّ هذه الأخطاء التي في أساسها العنجهية الأميركية، والتي توّجت بغزوة خليج الخنازير في عهد جون كينيدي، لا تبرّر تلك الحماسة للارتماء في حضن الاتحاد السوفياتي، والذهاب بعيدا في تحدي “الإمبريالية”. كانت لدى كوبا مشكلة ضخمة. تكمن المشكلة في أن كاسترو لم يُقدّر أنّ ليس لدى الاتحاد السوفياتي من نموذج اقتصادي واجتماعي ناجح يستطيع تقديمه. كان على الكرملين في كل وقت رفع راية محاربة “الإمبريالية” والدخول في سباق التسلّح، وهو سباق مكلف جدا، لتبرير المضي في الحرب الباردة. لم يتعلّم كاسترو من تراجع نيكيتا خروتشيف أمام جون كينيدي أثناء “أزمة الصواريخ” في العام 1962.

وقتذاك، نشر الاتحاد السوفياتي في كوبا صواريخ تهدّد المدن والأراضي الأميركية، وكاد الأمر أن يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة لو لم تسحب موسكو الصواريخ.

في النهاية أطاحت “أزمة الصواريخ” بخروتشيف. لكنّ كاسترو بقي في موقع رأس الحربة في مواجهة “الإمبريالية” والحصار الأميركي. إذا نظرنا جيدا إلى ما قام به، نكتشف كم كانت قدرته على خوض المعارك كبيرة، مقارنة مع الحجم الصغير لكوبا.

أخذنا فيديل كاسترو، برفقة تشي غيفارا في البداية، في رحلة الأحلام الجميلة التي سرعان ما اكتشفنا أنّها كانت مجرّد أوهام. في ستينات وسبعينات القرن الماضي تحدّت كوبا الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية. كانت في كلّ مكان. في بوليفيا حيث قتل تشي غيفارا، وصولا إلى الأوروغواي، حيث “التوباماروس» مرورا بنيكاراغاوا حيث “الساندينيون”. كانت كلّ الحركات الثورية، وحتّى الفوضوية، في القارة الأميركية مرتبطة، بطريقة أو بأخرى، بكوبا.

في أفريقيا، كانت كوبا في كلّ مكان أيضا. كانت حاضرة، على سبيل المثال وليس الحصر، في الكونغو وأنغولا وإثيوبيا، خصوصا بعد استيلاء منغيستو هايلي مريم على السلطة. كانت لديها علاقة متينة بالجزائر التي سعت في عهد هواري بومدين إلى الظهور في مظهر نصيرة العالم الثالث، قبل أن يتبيّن أنّ كل الثورات الداخلية التي قامت بها كانت فشلا ذريعا على كلّ المستويات. وعلى الضفّة الأخرى الآسيوية من القرن الأفريقي، كانت كوبا حاضرة في اليمن الجنوبي الذي كان في سبعينات القرن الماضي وحتّى آخر الثمانينات منه استثمارا سوفياتيا في منطقة شبه الجزيرة العربية. من يتذكّر كيف شارك طيارون كوبيون وخبراء عسكريون في الانقلاب الذي حصل على الزعيم اليمني الجنوبي سالم ربيع علي (سالمين)؟ كانت موسكو تخشى في 1978 من مباشرة “سالمين” الابتعاد عن الخط الذي فرضته على النظام الجديد الذي بدأ يتكوّن في عدن.

كانت هناك مغامرات كوبية في كلّ مكان. كانت هناك محاولة لتسويق نموذج يستهوي الشباب في كلّ العالم، فيما أميركا غارقة في حرب فيتنام. أين نجحت تجربة فيديل كاسترو وأين فشلت؟ فشلت لدى اضطرارها إلى الاعتماد كلّيا على المساعدات السوفياتية الذي كان يشتري كمية كبيرة من صادراتها، على رأسها السكّر، فضلا عن كميّة لا بأس بها من السيغار الكوبي.

لكنّ تجربة كوبا ما كانت قادرة على الاستمرار لولا توفّر دعم فنزويلي لها في السنوات العشرين الأخيرة، ولولا إنجازات تحقّقت على الصعيد الداخلي. في مقدّم هذه الإنجازات النظام الصحّي المتطوّر، وحدّ أدنى من الضمانات الاجتماعية للمواطنين.

مع الوقت، لم يعد من مفرّ من الالتحاق بركب التطورات التي يشهدها العالم الذي دخل الثورة التكنولوجية، في حين لم تعد في كوبا قطع غيار للسيارات الأميركية القديمة التي زاد عمرها على نصف قرن.

تعود كوبا في السنة 2015 دولة طبيعية. لم يعد مكان للأحلام الجميلة في عالمنا هذا. سيترتب عليها الانصراف إلى مشاكلها الداخلية، وإلى البحث عن صيغة جديدة للعلاقة مع الأخ الكبير حيث جالية كبيرة من الهاربين من الجزيرة.

ستكون العودة تدريجية، على الأرجح. لن يكون سقوط كوبا، كأحد آخر الحصون الماركسية في العالم، على غرار سقوط دول أوروبا الشرقية بعد انهيار جدار برلين. سيكون هناك هبوط بطيء وآمن على طريق العودة إلى التعاطي مع حقائق الحياة.

ما قد يساعد في ذلك أن باراك أوباما يبحث عن إنجاز ما ينهي به ولايته الثانية. صحيح أن طموحه الأساسي تطبيع العلاقات مع إيران، لكنّ الصحيح أيضا أنّه قد يترتب عليه الاكتفاء بالتطبيع مع كوبا، بصفة كونها بدلا عن ضائع في متناول اليد لا أكثر.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كوبا أو نهاية الأحلام الجميلة كوبا أو نهاية الأحلام الجميلة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 19:53 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 08:23 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجدي الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 18:00 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تشعر بالانسجام مع نفسك ومع محيطك المهني

GMT 15:27 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

توقيف فتاة كانت بصحبة شاب على متن سيارة في أغادير

GMT 03:00 2017 الإثنين ,02 كانون الثاني / يناير

أنطوان واتو يجسّد قيم السعادة في لوحاته الفنيّة

GMT 18:55 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تمرّ بيوم من الأحداث المهمة التي تضطرك إلى الصبر

GMT 20:15 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

افتتاح المهرجان الدولي لمسرح الطفل في رومانيا

GMT 12:01 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

وجهات منازل رائعة استوحي منها ما يناسبك

GMT 09:29 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

أفكار مختلفة لترتيب حقيبة سفركِ لشهر العسل

GMT 08:44 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منظمة "ميس أميركا" ترفع الحد الأقصى لسنّ المتسابقات

GMT 09:08 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

أفضل الطرق لتنسيق تنورة الميدي مع ملابسك في الشتاء
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca