قمّة تونس والمعطيات الجديدة

الدار البيضاء اليوم  -

قمّة تونس والمعطيات الجديدة

بقلم - خيرالله خيرالله

بين الموقف الأميركي الإيجابي من إيران والقرارات المتخذة في القمّة والتي تناولت الوضع العربي، هناك ثغرة كان لا بد من سدها. على سبيل المثال ما الفائدة من استعداء الإدارة الأميركية رغم كلّ انحيازها لإسرائيل؟
كانت القمّة العربية الرقم 30 نجاحا تونسيا. هناك بلد عربي يحاول استعادة عافيته في ظلّ ظروف داخلية وإقليمية في غاية الصعوبة، وفي ظلّ تجاذبات فرضها الإخوان المسلمون (حركة النهضة) الذين يسعون إلى الاستيلاء على السلطة عبر صناديق الاقتراع بهدف أخذ تونس إلى مكان آخر.

على الرغم من كلّ الصعوبات والتعقيدات، استطاعت تونس تنظيم القمّة في أجواء معقولة ومقبولة إلى حدّ كبير. جاءت القمّة في وقت تعمل حركة النهضة على أخذ تونس إلى مكان أبعد ما يكون عن تونس الخضراء التي يحلم بها الرئيس الباجي القائد السبسي الذي سعى إلى الاستفادة، قدر الإمكان، من تركة الحبيب بورقيبة. تريد النهضة الانتقام من بورقيبة. تريد حتّى الانتقام من إيجابيات في عهد زين العابدين بن علي الذي تظلّ مشكلته الأساسية في أنّه لم يستطع أن يكون أكثر من ضابط شرطة في بلد يحتاج الرئيس فيه إلى رؤية سياسية شاملة، بعيدا عن الصغائر والحساسيات ذات الطابع الشخصي والخوف الدائم من ولادة سياسي يتمتع بجاذبية لدى الناس ولا يقع في أسر زوجته الثانية وأفراد عائلتها.

يحاول الباجي قائد السبسي استكمال رحلة بورقيبة الذي حاول منذ الاستقلال في العام 1956 إقامة بلد عربي حضاري وعصري لا علاقة له بالتخلّف، بلد يُنصف المرأة وتكون فيه مؤسسات في خدمة المواطن، ويعمل من أجل تغلّب سلاح المنطق على كل ما عداه. عمل بورقيبة على مصالحة العرب مع المنطق في ستينات القرن الماضي. كانت النتيجة أنّهم خوّنوه ليكتشفوا بعد فوات الأوان أنّ الاستماع إلى ما قاله لهم في خطاب أريحا المشهور الذي سبق هزيمة العام 1967 بسنتين، كان سيوفّر عليهم الكثير.

نجحت تونس في تنظيم القمّة التي كشفت، أوّل ما كشفت، الحاجة العربية إلى التصالح مع المعطيات الجديدة في الشرق الأوسط والخليج في ضوء انفجار دول من الداخل. في مقدّمة تلك الدول التي انفجرت من الداخل تأتي سوريا التي تحتاج أوّل ما تحتاج إلى مرحلة انتقالية سيتبيّن بعدها هل هي دولة قابلة للحياة، أم أنّ الهمّ الوحيد للنظام القائم هو استكمال عملية تفتيت الكيان الذي كان في كلّ وقت حائرا مع نفسه منذ اليوم الأوّل لقيامه في أربعينات القرن الماضي. ما يؤكّد تلك الحيرة الانقلاب العسكري الذي قام به حسني الزعيم في العام 1949، ثمّ الوحدة الاندماجية مع مصر في العام 1958، وهي وحدة يمكن أن تكون لها علاقة بكلّ شيء باستثناء المنطق.

من هذا المنطلق، يمكن القول إنّ القمة نجحت تنظيميا، لكنّها فشلت إلى حدّ ما سياسيا، باستثناء أنّها حدّدت الخطوط العريضة للسياسات العربية، في مقدّمها ضرورة التصدي لإيران ومشروعها التوسّعي. لا يهدّد هذا المشروع كل دولة عربية فحسب، بل يستهدف أيضا المجتمعات العربية، وذلك عبر رهانه على إثارة الغرائز المذهبية والاستثمار فيها. لعلّ ما يدور في العراق وسوريا ولبنان واليمن خير دليل على ذلك.

هذا النجاح في التركيز على إيران لا يخفي غياب أي خطوة عملية على أيّ صعيد في وقت هناك إدارة أميركية لا يهمّها بأي شكل أن تكون هناك عملية سلام في الشرق الأوسط. هذه الإدارة مستعدة لاتخاذ خطوات لا علاقة لها بالمنطق من نوع الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، في حين ليس سرّا أن المدينة بقسمها الشرقي احتلتها إسرائيل في العام 1967 عندما كانت تحت السيادة الأردنية. تكمن مشكلة القمّة في أنّها تعكس أيضا عجزا عربيا عن التعاطي مع واقع جديد اسمه إدارة دونالد ترامب التي تمتلك عالما خاصا بها. من حسنات الإدارة تمزيق الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني، ومعرفتها التامة بخطورة ما تشكله السياسة الإيرانية. ومن سيئاتها الانحياز الكامل لإسرائيل من دون الأخذ في الاعتبار أن هذا الانحياز يخدم إيران التي تتذرع دائما بإسرائيل لتبرير ما تقوم به في هذا البلد العربي أو ذاك عبر ميليشيا مذهبية تابعة لها.

بين الموقف الأميركي الإيجابي من إيران والقرارات المتخذة في القمّة والتي تناولت الوضع العربي، هناك ثغرة كان لا بدّ من سدّها. على سبيل المثال وليس الحصر، ما الفائدة من استعداء الإدارة الأميركية على الرغم من كلّ انحيازها لإسرائيل؟ هل في الإمكان تحقيق أي تقدّم على صعيد العملية السلمية من دون الدور الأميركي؟ كان لا بدّ من العودة إلى المنطق الذي حاول الحبيب بورقيبة أن يصالح جمال عبدالناصر والفلسطينيين معه في العام 1965 عندما ألقى خطابه المشهور في أريحا التي لم تكن بعد تحت الاحتلال الإسرائيلي ودعا فيه إلى قبول قرار التقسيم للعام 1947. كانت النتيجة، وقتذاك، أن دعت منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة أحمد الشقيري، بتشجيع من مصر، إلى طرد تونس من جامعة الدول العربية. أعطى التاريخ الحق لتونس التي لم تستضف لاحقا قمما عربية عدّة فحسب، بل استقبلت أيضا المقاتلين الفلسطينيين وقيادتهم عند الخروج من بيروت صيف العام 1982. حس نا، استعدى الفلسطينيون الإدارة الأميركية وسار الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس (أبومازن) على خطى أحمد الشقيري. ما الفائدة من ذلك في السنة 2019؟

تسلّحت القمة بالمبادرة العربية التي أقرتها قمّة بيروت في العام 2002 بغية تجاوز العجز عن تحديد خطة لكيفية التعاطي مع ترامب ورجال إدارته. لم يكن لدى الزعماء العرب ما يتحدثون عنه غير المبادرة العربية التي ترفضها إسرائيل منذ اليوم الأوّل لإقرارها. ما الذي سيجبر إسرائيل، في يوم من الأيّام، على القبول بالمبادرة العربية؟

ما ينطبق على التمسك بالمبادرة العربية ينطبق أيضا على رفض القمّة قرار ترامب القاضي بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان المحتلة. لا يختلف اثنان على أن الهضبة أرض سورية محتلة، علما أن قسما منها فلسطيني، وأن الإدارة الأميركية تقصّدت الانتهاء من كلّ قرارات الشرعية الدولية التي كانت في الماضي تتحكم بعملية السلام. هذا لا يمنع التساؤل من سيتسلم الجولان في حال انسحبت إسرائيل من المرتفعات المحتلّة؟ هل لا يزال هناك شيء اسمه سوريا كي تتسلّم المرتفعات، أم يدخلها “الحرس الثوري” الإيراني الساعي إلى إدارة ميناء اللاذقية؟

تفادت القمّة الأسئلة المحرجة. مرت مرور الكرام على رفض النظام السوري الاعتراف بأن مزارع شبعا أراض لبنانية كي يصبح في الإمكان الطلب من إسرائيل الانسحاب من هذه المزارع المحتلة مع الجولان؟

هناك معطيات جديدة في المنطقة في حاجة إلى طريقة تفكير جديدة لم تستطع القمّة العربية التكيّف معها.

نجحت القمّة تنظيميا بفضل تونس الساعية إلى المحافظة على نفسها. استطاعت تونس، بمساعدة جامعة الدول العربية، وضع نفسها في موقع الدولة التي لم يقض عليها “الربيع العربي” نهائيا وأثبتت أنه ما زال لديها ما تقدّمه للعرب الآخرين، خصوصا إذا تمكنت من منع الإخوان المسلمين من الاستيلاء على السلطة فيها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قمّة تونس والمعطيات الجديدة قمّة تونس والمعطيات الجديدة



GMT 11:31 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب جديدة للقارئ في معرض الشارقة الدولي

GMT 11:26 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب أخرى للقارئ العربي

GMT 05:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

دسائس البلاط

GMT 05:01 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

اللبنانيون يأملون.. لكن بخوف وحذر!

GMT 05:00 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

ثورة في لبنان في عهد "حزب الله"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 05:07 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

خلطات سهلة من بودرة القرفة والألوفيرا لشعر صحيّ ولامع

GMT 18:13 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

"حق الله على العباد" محاضرة بتعاوني جنوب حائل السبت

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 02:33 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

زاهي حواس يكشف حقائق مُثيرة عن مقبرة "توت عنخ آمون"

GMT 08:52 2018 الثلاثاء ,27 شباط / فبراير

توقيف أحد اللصوص داخل مدرسة التقدم في أغادير

GMT 07:35 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

ريتا أورا تُناهض التحرّش وتثير الجدل بإطلالة مثيرة

GMT 01:09 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

مصادر تنفي خبر مقتل الفنان اللبناني فضل شاكر في غارة جوية

GMT 05:12 2016 الأربعاء ,07 كانون الأول / ديسمبر

تيريزا ماي تحضر قمة مجلس التعاون الخليجي

GMT 07:04 2016 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

حرباء متغيرة اللون يمتد لسانها لـ60 ميلًا لصيد فريستها

GMT 22:38 2014 الثلاثاء ,08 تموز / يوليو

قميص نيمار يظهر في الملعب قبل مواجهة ألمانيا

GMT 01:22 2015 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

المدافئ الكهربائية تتغلب على النمط التقليدي بأناقتها المميزة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca