الاستنزاف المستمر للبنان…

الدار البيضاء اليوم  -

الاستنزاف المستمر للبنان…

خيرالله خيرالله

لا يمكن لفئة معينة مهما امتلكت من سلاح ومهما لجأت إلى التجييش حكم لبنان. الجميع أقليات في لبنان. في استطاعة الأقليات ممارسة العيش المشترك وتأمين الازدهار للبنان.

هناك استنزاف للبنان. استنزاف للشباب اللبناني المتعلّم واستنزاف للاقتصاد بكلّ الوسائل المتاحة. هناك تعطيل للسياحة وكلّ ما له علاقة بالخدمات والصناعة والزراعة. ليس ما يفسّر هذا الاستنزاف سوى ذلك الإصرار لدى “حزب الله”، وأدواته المعروفة، على نشر البؤس في لبنان. ثمّة رغبة في إخضاع اللبنانيين وتيئيسهم، وتحويل البلد كلّه إلى مجرد قرية شبه مهجورة تقع في ريف أحد بلدان العالم الثالث أو الرابع… أو الثمانين بعد المئة.

كانت صيحة الهيئات الاقتصادية، بما في ذلك النقابات العمالية، التي اجتمعت في بيروت ودعت إلى “وقف الانتحار” بمثابة إنذار آخر إلى اللبنانيين لعلّهم يعون أن بلدهم يواجه مؤامرة حقيقية. انضمّ كلّ من له علاقة بالإنتاج إلى اللقاء الذي انعقد في 25 يونيو الجاري، وذلك للتعبير عن مدى خطورة الوضع في الوطن الصغير. نعم، هناك مؤامرة على لبنان. نظرية المؤامرة تنطبق للأسف على لبنان، علما أنّ من الصعب الإيمان بها في معظم الأحيان. من ينفّذ المؤامرة معروف ويعرف تماما ما الذي يريده.

هناك مؤامرة موصوفة ذات رؤوس معروفة وأدوات أكثر من معروفة وفصول متلاحقة يجمع بينها عنوان واحد. هذا العنوان هو “لبنان الساحة”. مطلوب أن يكون لبنان “ساحة” يلعب فيها الآخرون. من يرفض النزول إلى مجلس النوّاب لانتخاب رئيس للجمهورية، هو الرئيس المسيحي الوحيد في المنطقة الممتدة من موريتانيا إلى ما بعد أفغانستان، إنّما يشارك في المؤامرة. هذه المؤامرة لا تستهدف المسيحيين وحدهم. إنّها مؤامرة تستهدف كلّ لبناني بغض النظر عن طائفته ومذهبه والمنطقة التي ينتمي إليها.

من فصول المؤامرة ذهاب “حزب الله” إلى سوريا للمشاركة في القتال إلى جانب نظام أقلّوي مرفوض من شعبه. كيف يمكن للبناني الذهاب لقتال سوري، داخل الأراضي السورية، من منطلق مذهبي وأن يدّعي أنه يخدم بلده؟ مثل هذا التصرف استدعاء إلى لبنان للتطرّف السنّي الذي يرمز إليه “داعش” والذي نجده في حال صعود في سوريا والمنطقة كلّها.

من المفيد في المرحلة الراهنة التوقّف عند حدث معيّن. هذا الحدث هو المفاوضات الدائرة بين المجتمع الدولي وإيران في شأن الملف النووي الإيراني. في الواقع، إنّ المفاوضات هي بين الأميركيين والإيرانيين. الجانبان يتصرّفان وكأن الاتفاق حصل وأنّ كلّ ما يدور حاليا هو نوع من المناورات لا هدف منها سوى تسويق الاتفاق داخليا.

في إيران، استفاق “المرشد” آية الله علي خامنئي أخيرا، وأكّد أن إيران لن تسمح بتجاوز خطوط حمر معيّنة. هذا الكلام هو للاستهلاك الداخلي. كلّ ما في الأمر أنّ إيران في حاجة ماسة إلى الاتفاق، لا لشيء سوى لأنّها في حاجة إلى مليارات الدولارات التي سيفرج عنها المجتمع الدولي فور الإعلان عن بدء العمل به.

على الصعيد العملي بدأ سريان الاتفاق. هناك مئات من رجال الأعمال الأميركيين والأوروبيين في طهران حاليا. هؤلاء يبحثون عن فرص للاستثمار في سوق كبيرة تحتاج إلى كلّ شيء تقريبا.

المفارقة أن إيران تسعى إلى الاستفادة إلى أبعد حدود من أوراقها اللبنانية خدمة لنظام يحاول تجديد نفسه من أجل البقاء في السلطة، فيما هناك شبّان لبنانيون يموتون في سوريا. يموت هؤلاء من أجل أن تعزز إيران موقعها التفاوضي مع “الشيطان الأكبر” لا أكثر ولا أقلّ. هؤلاء لا يموتون من أجل لبنان ومن أجل المحافظة على البلد وحمايته. من يريد خدمة لبنان، يضع نفسه في خدمة الجيش اللبناني، ولا يدخل في مشاريع تستهدف إقامة دويلات طائفية في سوريا لديها امتدادها في البقاع اللبناني على حساب عرسال وغير عرسال.

اللجوء إلى المنطق ضروري بين حين وآخر. المنطق يقول أنّ لبنان كان يستطيع أن يكون المستفيد الأوّل من كلّ ما تشهده المنطقة من تطورات ذات طابع مصيري. لبنان معدّ أصلا ليكون ملجأ لرؤوس الأموال الهاربة من بلدانها، خصوصا بفضل نظامه المصرفي وحرّية الاقتصاد التي يتمتّع بها منذ سنوات.

أثبت لبنان أن تركيبته أقوى من التركيبات الأخرى، خصوصا من التركيبة السورية التي عانت دائما من أزمة عميقة بدأت مع الانقلاب العسكري الأوّل عام 1949.

بدل استفادة لبنان من تركيبته التي استهوت، باكرا، المهارات والعقول السورية، إذا به يزجّ بنفسه في لعبة لا تعود عليه سوى بالويلات. لا يمكن أن ننسى اتفاق القاهرة المشؤوم الذي وُقّع عام 1969 الذي وضع الأسس لتحويل لبنان إلى “ساحة”. ولا يمكن المرور مرور الكرام على كلّ الأحداث الكبيرة التي عاشها البلد وصولا إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في العام 2005. صمد لبنان في وجه العواصف وصمدت بيروت أمام كل الزاحفين عليها من غزاة وأعداء، بمن في ذلك إسرائيل. لا يزال السؤال المحيّر ذاته. لماذا هذا الإصرار على إفقار اللبنانيين وتهجير الشباب اللبناني وضرب الاقتصاد؟

لا تفسير لذلك، سوى أنّ هناك مؤامرة مستمرّة على لبنان. عزل لبنان عن محيطه العربي جزء من المؤامرة، كذلك منع انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتعطيل العمل الحكومي عبر النائب المسيحي ميشال عون المعروف من الذي يسيّره بالريموت كونترول.

الأمل أن تتوقف هذه المؤامرة في اليوم الذي توقّع إيران الاتفاق في شأن ملفّها النووي. يمكن أن يكون ذلك بداية الخلاص بالنسبة إلى لبنان، كما يمكن أن يحمل الحدث نتائج عكسية، خصوصا في حال زادت شهية القيمين على المشروع التوسّعي الإيراني.

في كلّ الأحوال، من حقّ الهيئات الاقتصادية في لبنان إطلاق صيحة ألم حقيقية. ولكن من حقّ اللبنانيين أيضا سماع من يقول لهم أنّ المؤامرة مستمرّة على بلدهم وأن يتساءل معهم لماذا هذا الإصرار على “لبنان الساحة”، في وقت يثبت اللبنانيون، يوما بعد يوم، أن بلدهم الصغير يستحقّ الحياة بدل أن يكون مجرّد ورقة في يد إيران.

مرّة أخرى، لا يمكن لفئة معيّنة، مهما امتلكت من سلاح ومهما لجأت إلى التجييش المذهبي، حكم لبنان. الجميع أقلّيات في لبنان. في استطاعة الأقليات ممارسة العيش المشترك وتأمين الازدهار للبنان بدل الإصرار على البؤس والقهر اللذين لا يستفيد منهما أحد.

البؤس والقهر يؤسسان لمزيد من التعصّب والعنف والإرهاب، ويساهمان في إيجاد حاضنة لـ”داعش” السنّية والدواعش الشيعية التي تدّعي محاربة “التكفيريين”، فيما هي أفضل حليف لهم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستنزاف المستمر للبنان… الاستنزاف المستمر للبنان…



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 19:53 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 08:23 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجدي الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 18:00 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تشعر بالانسجام مع نفسك ومع محيطك المهني

GMT 15:27 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

توقيف فتاة كانت بصحبة شاب على متن سيارة في أغادير

GMT 03:00 2017 الإثنين ,02 كانون الثاني / يناير

أنطوان واتو يجسّد قيم السعادة في لوحاته الفنيّة

GMT 18:55 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تمرّ بيوم من الأحداث المهمة التي تضطرك إلى الصبر

GMT 20:15 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

افتتاح المهرجان الدولي لمسرح الطفل في رومانيا

GMT 12:01 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

وجهات منازل رائعة استوحي منها ما يناسبك

GMT 09:29 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

أفكار مختلفة لترتيب حقيبة سفركِ لشهر العسل

GMT 08:44 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منظمة "ميس أميركا" ترفع الحد الأقصى لسنّ المتسابقات

GMT 09:08 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

أفضل الطرق لتنسيق تنورة الميدي مع ملابسك في الشتاء
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca