نموذج سيئ

الدار البيضاء اليوم  -

نموذج سيئ

توفيق بو عشرين

جاء الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قبلأسبوعين إلى المغرب في زيارة رسمية، وحمل معه وجوها فرنسية من أصل مغربي نجحت في السياسة أو الأدب أو الفن، ليقول للرأي العام في المملكة المغربية: إن نموذجنا الفرنسي في إدماج المهاجرين ناجح، ودليلي هؤلاء: نجاة بلقاسم، وزيرة التعليم في الحكومة الفرنسية من أصل مغربي، ومريم الخمري، كاتبة دولة في حكومة مانويل فالس مكلفة بالمدينة من أصل مغربي، وقبلهما رشيدة داتي، التي كانت وزيرة عدل من أصل مغربي في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، وها هو الطاهر بنجلون، أديب فرنسي ينحدر من أسرة مغربية، وإلى جانبه جمال الدبوز، كوميدي استطاع أن ينال شهرة كبيرة في بلاد موليير رغم أنه ولد في الأحياء الهامشية من أسرة مغربية مهاجرة.

الصورة التي جاء الرئيس الفرنسي يسوقها للمغاربة، وهو وسط أبناء مهاجرين صاروا مشهورين وناجحين في فرنسا، لا تعكس الحقيقة، بل هي مجرد استثناء يؤكد القاعدة، والقاعدة أن النموذج الفرنسي في إدماج المهاجرين في نسق الدولة الفرنسية ومعمارها السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي هو الأسوأ في العالم الغربي، وهو نموذج لا يقارن بأمريكا بلاد المهاجرين بامتياز، ولا ببريطانيا التي تعترف بتنوع مواطنيها وتقبل بهم أفرادا ومجموعات، ولا حتى بالنموذج الألماني أو الكندي أو الهولندي، الذي يدافع عن المساواة والحريّة وتعدد الهويات الوطنية، ويرى في المهاجرين مصدر تنوع وغنى لا مصدر خوف وقلق.

البلاد التي يعترف فيها 42٪ من الفرنسيين بأنهم ينظرون إلى المواطنين المغاربة والجزائريين والتونسيين الحاملين لجوازات سفر فرنسية باعتبارهم عرباً لا فرنسيين، والبلاد التي أنشأت وزارة خاصة بالهوية الوطنية لأنها تخاف على عذرية فرنسا من الدخلاء، لا يمكن أن تكون نموذجا في إدماج المهاجرين، والبلاد التي يعترف فيها الشباب العربي والمسلم من الجيل الثالث، في استطلاعات رأي فرنسية، بأن اسم محمد وحده عائق كبير يحول دون ولوج صاحبه سوق العمل، والدولة التي يصل فيها عدد العاطلين عن العمل من الشبان المسلمين في الضواحي المهمشة إلى 50٪، فيما لا تتجاوز النسبة 20٪ وسط الفرنسيين من العمر نفسه ومن الوسط نفسه، هي دولة لا يمكن أن تسوَّق أو تقدم كنموذج لاندماج المهاجرين.

الآن دعونا نسأل عن الأسباب التي تجعل الفرنسيين فاشلين في سياسة إدماج المهاجرين، وهي باختصار ثلاثة:
أولا: فرنسا تطلب من المهاجرين الذوبان في ثقافتها ولغتها وعاداتها، ولا تطلب منهم الاندماج، والفرق كبير بين الذوبان والاندماج. وقد نما هذا العائق في استيعاب المهاجرين وكبر بسبب نوع من التفكير المركزي الذي يحيط بالعقل الفرنسي، ويوهم أصحابه بأنهم النموذج المثال الذي يجب على الآخرين أن يتبعوه، وأن يقبلوا طائعين بالسير خلفه. إنها فرنسا الثورة، فرنسا العلمانية، فرنسا الفرانكفونية، وفرنسا الإمبراطورية التي كانت تحكم العالم مع بريطانيا طيلة قرنين.
ثانيا: لا تجربة لفرنسا في الهجرة، حيث لم تعش هي نفسها تجربة الهجرة، وعدد الفرنسيين الذين يعيشون خارج فرنسا هو الأضعف في كل العالم (من بين 66 مليون فرنسي اليوم لا يوجد سوى 1.5 مليون يعيشون خارج بلادهم، ونصف هؤلاء المهاجرين الفرنسيين يوجدون في الاتحاد الأوروبي). إذن، لا توجد ثقافة للهجرة في البلاد، وفرنسا هي بلاد استقبال أكثر منها بلد مصدر للهجرة.
ثالثا: لم تكن الهجرة إلى فرنسا، في أوائل القرن الماضي، اختيارا للمهاجرين، بل كانت طلبا من فرنسا، وأحيانا بطريقة قسرية وعنيفة، ولما دخلت فرنسا الحربين العالميتين الأولى والثانية، عمدت إلى تجنيد الأهالي من الجزائر وتونس والمغرب والسنغال للقتال في صفوف جيوشها، وعندما انتهت الحرب وجهت مئات الآلاف من المغاربيين للعمل في المصانع والمناجم والأعمال الشاقة لإعادة بناء فرنسا التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، وهنا نشأت علاقة متوترة بين المهاجر المغربي وفرنسا.. هو ينظر إليها كمستعمر، وهي تنظر إليه كجندي أو عامل في مهمة محددة وسيرجع إلى بلاده، ولهذا لا حاجة إلى فهم لغته ودينه وثقافته. وهكذا كبر الجيل الأول في جو من الخضوع وانتظار العودة إلى البلاد وإلى الجذور. وقد حاول الجيل الثاني أن يتفادى أخطاء الآباء والأمهات، وعقد العزم على أن يصير فرنسيا، فدرس وتفوق، لكنه لم يأخذ المكانة التي يستحقها في المجتمع الفرنسي. أما الجيل الثالث، الذي حمل ثقافة الجيل الأول وامتعاض الجيل الثاني، فقد رد بقوة على تهميشه، وقلب الطاولة على الجميع متسلحا بعنف الإقصاء وبموجة الأصولية الجهادية التي استغلت مشاكله وأزماته، وحولته إلى لغم قابل للانفجار في المجتمع الفرنسي الذي لم يقبل إدماج والده والاعتراف بجده.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نموذج سيئ نموذج سيئ



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 19:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 17:43 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 02:39 2014 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

1460 موظفة في " ديوا " ٪76منهن مواطنات إماراتيات

GMT 00:11 2018 الجمعة ,29 حزيران / يونيو

خلطة التفاح تساعد على سد الشهية وفقدان الوزن

GMT 08:07 2018 الجمعة ,16 شباط / فبراير

توقيف طبيب عالمي شهير بسبب مواطنة مغربية

GMT 13:31 2017 الأحد ,24 كانون الأول / ديسمبر

روما ينافس الأنتر على ضم المغربي حكيم زياش

GMT 01:15 2017 الخميس ,21 كانون الأول / ديسمبر

نيللي كريم تُعلن عن أكثر ما أسعدها في عام 2017

GMT 13:17 2017 الخميس ,14 كانون الأول / ديسمبر

جورج وسوف يستعد لإطلاق ألبومه الفني الجديد مطلع العام
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca