تحرير الكلام في السياسة

الدار البيضاء اليوم  -

تحرير الكلام في السياسة

توفيق بو عشرين


مواجهات سياسية عنيفة تدور رحاها في المغرب هذه الأيام بين عبد الإله بنكيران وأحزاب المعارضة.. تجمعات وتجمعات مضادة، مسيرات ومسيرات مضادة، اتهامات واتهامات مضادة، وفي السياسة، كما في الجنس، كل الضربات مباحة بما في ذلك الضرب تحت الحزام…

بنكيران أخرج مدفعيته الثقيلة، واختار أن يقصف المعارضة من تطوان والدشيرة والراشيدية والرباط، ويستعد في الأيام المقبلة لتنظيم تظاهرات حاشدة في ربوع المملكة للرد على خصومه، حيث اختار الشارع هذه المرة ليستعرض قوة شعبيته ويبعث رسائل إلى من يهمه الأمر…

المعارضة اختارت أن توظف 8 مارس هذا العام، وجعل مطالب النساء بالمساواة والكرامة والحقوق مناقضة كليا للحكومة ورئيسها، واختارت أن تعطل التشريع في البرلمان بدعوى أن الحكومة تنفرد بالإعداد للانتخابات المقبلة، ثم ختمها الرفيق إدريس لشكر بتشبيه بنكيران بهتلر! ودعوة الملك محمد السادس إلى التدخل بينه وبين بنكيران لإنقاذ البلاد من منزلقات المرحلة وكل عام والملكية البرلمانية بألف خير…

هذه المعارك، على عنفها وانزلاقاتها، ليست كلها سيئة بالنسبة إلى تطور الحياة السياسية المغربية التي كانت دائماً حياة نخبوية تستعمل فيها الإشارات المرموزة ونميمة الصالونات ورسائل المبعوثين الخاصين من وإلى القصر فيما الشعب في دار غفلون، كان الجميع يرتب أوراقه بعيدا عن الرأي العام في غالب الأحوال ولا يرى الناس إلا «التشاش». 

الاحتكام إلى الرأي العام جزء من الممارسة الديمقراطية، والتواصل السياسي هو وقود الحراك الديمقراطي، والمناظرة والجدال والاختلاف هو الذي يورط الناس أكثر في السياسة، ويحثهم على الاختيار، أي على دخول اللعبة وترك كراسي المتفرجين.

نعم هناك الكثير من الملاحظات على المعارك السياسية الراهنة بين سياسيينا، ومنها أنها معارك يطغى عليها البوليميك عوض الأفكار، الجدل عوض البرامج، والسب عوض النقد، الشخصي عوض الموضوعي، تقطار الشمع عوض وجادلهم بالتي هي أحسن، لكن ما العمل؟ هذا هو مستوى البلد ونخبه وسياسته وثقافته، الله غالب، لن نستورد نخبا من سويسرا أو كندا أو الدانمارك، علينا أن نتعامل مع هذه الوجوه، وأن نحرجها بالنقد ونطورها بالملاحظة والتجربة…

لهذه الحكومة فضل إخراج الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة إلى الشارع، قبل هذه الحكومة كانت أصوات المعارضة تصرخ لكن بالشعارات وليس بالملفات والأرقام والإحصائيات. لم يكن المغاربة يعرفون بدقة موضوع صندوق المقاصة وملياراته، ولا صناديق التقاعد وإفلاسها، ولا مشاكل المديونية وأرقامها، ولا كواليس علاقة القصر بالحكومة وقيادتها. كانت الحكومات السابقة تلوذ بصمت القبور، وإذا تحدث وزراؤها فلغة الخشب لا تفارق جلهم، خذوا مثلا الأربعة وزراء الأولين السابقين.. عبد اللطيف الفيلالي لم يكن يفهم المغاربة ولا هم كانوا يفهمونه، ولم ينتظروا منه شيئا، ولا هو وعد بشيء. جاء إلى الحكومة في الوقت الضائع، وخرج دون أن يسأل عنه أحد. عبد الرحمان اليوسفي رغم أنه قاد تجربة كبيرة للتناوب الثاني فإنه خرج من باب صغير، ولم يفتح فمه إلا بعد أن صدم بالخيار التقنوقراطي يرجع بعد فشل تجربة التناوب، وتعيين جطو وزيرا أول، عندها فقط سافر إلى بروكسيل، ونعى التجربة الحكومية بلغة لا يفهمها إلا الراسخون في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ثم رجع إلى بيته، وأغلق عليه الباب، ولم يشرك أحدا في ما جرى. إدريس جطو من اليوم الأول اعتبر نفسه كبير الوزراء، مكلفا بحل مشاكل التدبير وإنعاش الاقتصاد وزيادة كيلومترات الطرق السيارة، وخفض عدد موظفي الإدارة، واستكمال الخصخصة، أما السياسة فتركها لأصحابها، لهذا لم يتحدث للصحافة إلا نادرا ولسانه يردد: «الله يخرج سربيسنا على خير»، ومع ذلك عندما خرج من رئاسة الحكومة بأشهر تبعه بلاغ الوكيل العام للملك في الدار البيضاء يتهمه بتهمة ثقيلة، ومنذ ذلك اليوم والرجل في الظل إلى أن دخل إلى المجلس الأعلى للحسابات. أما الأستاذ عباس الفاسي، فإنه كان واضحا منذ اليوم الأول عندما خرج من القصر الملكي يحمل ظهير التعيين في الوزارة الأولى، قال للصحافة: «برنامجي في الحكومة هو الخطب الملكية وتوجيهات جلالته». جاء الرجل إلى الوزارة الأولى مثقلا بفضيحة النجاة وبأمراض الشيخوخة، وبأعطاب حزب ما عاد كما كان، لهذا ظل عباس يمشي على البيض إلى أن داهمه الربيع العربي، فوضع المفاتيح وفر إلى بيته…

هؤلاء جميعا لم يتحدثوا مع الناس باللغة التي يفهمونها، ولا صارحوهم بالصعوبات التي لاقتهم في الطريق، ولا أشركوهم في هموم السياسة والقرار، حتى جاء بنكيران من خارج النسق التقليدي للسياسة والحكم، وقرر ألا يتلقى الضرب ويصمت.. قرر أن يعطي الكلام مكانه، والتواصل صدارة العمل، وإتباع القرار بالتسويق، والذي لا يستطيع أن يقوله صراحة يسكبه في فم العفاريت والتماسيح والأمثال الشعبية، وما لا يستطيع كرئيس الحكومة اتخاذه من قرارات يعوضه بالكلام والتواصل والشكوى والصراخ والسخرية كزعيم سياسي فيما الناس يتابعونه ويفهمونه ويتفاعلون معه، قبولا ورفضا، حبا وبغضا، وهذا هو المطلوب، أن يخرج الناس من سلبيتهم ولا مبالاتهم…

الهدف في النهاية هو أن نورط أكبر عدد من المواطنين في السياسة، أي في اختيار من يحكم، وألا يبقى الشعب في دار غفلون، بعدها ليقرر ما يشاء…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تحرير الكلام في السياسة تحرير الكلام في السياسة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 20:11 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تجنب الخيبات والارتباك وحافظ على رباطة جأشك

GMT 09:26 2018 الثلاثاء ,26 حزيران / يونيو

إعادة سلحفاة نادرة إلى مياه خليج السويس بعد علاجها

GMT 01:32 2014 الأحد ,27 تموز / يوليو

طريقه عمل مفركة البطاطا

GMT 08:20 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

منزل بريطاني على طريقة حديقة حيوان يثير الإعجاب في لندن

GMT 06:11 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

أسهل طريقة لإعداد مكياج رائع لجذب الزوج

GMT 00:03 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

قرار بخصوص مشروع ملكي مغربي يُربك حسابات إلياس العماري
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca