بقلم : توفيق بو عشرين
الفايسبوك يقطر حزنا، ومئات الآلاف من البروفيلات في العالم الأزرق علقت صور الحداد على وفاة شهيد الريف محسن فكري، بائع السمك الذي قتل مفروما في شاحنة للأزبال عندما ألقى بنفسه داخلها احتجاجا على إتلاف بضاعته، متصورا أن حياته ستكون أغلى من أسماكه، وأن أحدا لن يتجرأ على تشغيل آلة الفرم داخل الشاحنة، لكن تقديره لم يكن صحيحا..آلة السلطة لا مشاعر ولا عواطف لديها، وهي لا تفرق بين البشر والسمك والحيوانات.. كل شيء عندها قابل للفرم.
الحدث المفجع لم يبقَ محبوسا في قرية إمزورن، بل ذاع في كل المغرب، ووصلت أصداؤه إلى العالم باعتباره حدثا فريدا من نوعه (شاحنة أزبال تفرم إنسانا حيا داخلها أمام عدسات كاميرات الهواتف المحمولة).
إنه الإحساس بالمهانة وانعدام القيمة، وتجبر السلطة التي لها سوابق سيئة، في الريف وغير الريف، منذ أن نزل ولي العهد، مولاي الحسن، مع الجنرال أوفقير إلى جبال الريف لإخماد انتفاضة الريف سنة 1958 بأسلوب الأرض المحروقة، منذ ذلك الوقت والريفيون يشعرون بـ«الحكرة»، وزاد من تعميق الجرح وصفهم من قبل الملك الراحل الحسن الثاني بالأوباش الذين يعيشون على التهريب وزراعة المخدرات، في خطاب رسمي بعد أحداث 1984. منذ ذلك الزمن، الذي مازال محفورا في ذاكرة الكبار والصغار، وأهل الريف مصابون بحساسية مفرطة من «المخزن»، رغم أن الملك محمد السادس حاول أن يضمد الجرح، وأن يعطي الحسيمة وضع المدينة الأولى بالرعاية، حيث زارها أكثر من مرة، وأقام فيها لأسابيع لتبديد سوء الفهم بين الريف والعرش، لكن على الأرض بقي الفقر والتهميش ورعونة سلوك الإدارة يذكر الناس بما نسوا… وواهم من يسوق في الرباط لمصالحة تاريخية بين الدولة وأهل الريف من أجل أن يحصل على مكاسب سياسية وانتخابية غير مستحقة.
السؤال الآن هو: هل من صلاحيات الشرطة القضائية أن تصادر أسماك الراحل فكري في غياب شرطة الصيد، المخولة علميا ولوجستيكيا لمعاينة المخالفة بدقة؟ هل من حق الشرطة أن تحجز البضاعة، وأن تتلفها في الحين بواسطة شاحنة خاصة لها عقد مع المجلس البلدية لجمع الأزبال، وليس لإعدام المحجوز من الأسماك أو غيرها؟ ألم يكن كافيا من الشرطة أن تعاين المخالفة، وأن تترك باقي الإجراءات للنيابة العامة ولحكم القضاء؟ كيف يمكن إتلاف كمية كبيرة من الأسماك أمام أنظار أصحابها في الشارع العام، ودون أخذ الاحتياطات اللازمة حتى لا تشكل العملية خطرا على حياة الناس؟ ثم من أعطى السائق الأمر بتحريك الشاحنة وفي بطنها بشر يصرخ ويحتج؟ الجواب عن هذه الأسئلة سيرتب استنتاجات ومسؤوليات وجزاءات، والجميع ينتظر نتائج التحقيق، ويجب ألا يستبق أحد الأمر ويبرئ هذا أو يتهم ذاك، بما في ذلك بلاغ الداخلية الذي تسرع في تكييف ما حدث.
وسط هذه الفاجعة، ومن عمق الحزن الذي عّم البلاد كلها، ظهر حس تضامني عميق في كل المغرب مع الريف، وتفجر غضب كبير من كل الشرائح الاجتماعية ضد هذه الحادثة المؤلمة، وتدفق تعاطف غامر مع بائع السمك الذي قدم حياته ثمنا لكرامته التي أحس بأنها مست يوم الجمعة.
لقد وجد عامل الحسيمة والوكيل العام للملك بها نفسيهما في ورطة عندما وقفا أمام الآلاف الشباب الذين تجمعوا في ساحة المدينة للاحتجاج على حادثة مقتل فكري، محاولين تبريد «الطرح»، وطمأنة المحتجين على أن في البلاد قانونا وعدالة وحقوق إنسان، وأن التحقيق القضائي سيذهب إلى منتهاه. نهض شاب من بين الجموع، وألقى في وجه العامل والوكيل العام للملك «قنبلة مدوية»، وقال مخاطبا أعلى سلطة في المدينة: «السيد الوكيل العام للملك، السيد العامل، نحن نعرف أن في البلاد قانونا لكنه لا يطبق، ونعرف أن في البلاد عدالة لكنها لا تعرف طريقها إلى المظلوم، ونعرف أن في البلاد حقوقا لكنها حقوق على الورق»، ولكي يعطي لكلامه مدلولا واقعيا، قدم الشاب الريفي للعامل وممثل النيابة العامة مثالا حيا فقال: «في 2011، وجد خمسة شبان محروقين في وكالة بنكية في الحسيمة، وراجت أخبار عن أنهم قتلوا في مكان آخر وألقي بهم في البنك بعد ذلك لإخفاء معالم الجريمة، فأين وصل التحقيق في هذه الجريمة؟ ولماذا لم يساءل المسؤولون عن التقصير في البحث عن المجرمين، وأنا كنت آنذاك رجل أمن خاص، وأعرف أنه لا توجد أي وكالة بنكية بدون كاميرات، ومع ذلك قالت التحريات إن الكاميرات لم تكن موجودة»… تعالت الهتافات المؤيدة لـ«محامي الشعب» هذا من قبل آلاف الغاضبين، فتراجع العامل والوكيل العام إلى الخلف، وغادرا التجمع دون أن يفلحا في إقناع الناس بترك الملف يأخذ مجراه القانوني.
عندما كان المغاربة على أعصابهم يتابعون حكاية «شهيد الكرامة»، كان أخنوش يتسلم مفاتيح دكان حزب التجمع الوطني للأحرار، وكان امحند العنصر يناور لكي لا يخرج المجلس الوطني للحركة بأي موقف من المشاركة في حكومة بنكيران (وعلاش جامعهوم أصلا). كلا الحزبين لم يجدا مكانا صغيرا في البيانين الختاميين لـ«مول السمك»، فهذا موضوع خارج اهتمام الأحزاب، وحدهما حزبان عبرا عن رأيهما في النازلة، الأول هو حزب العدالة والتنمية الذي خرج زعيمه بنكيران يعزي العائلة في وفاة ابنها، ويدعو إلى الهدوء وإلى فتح تحقيق معمق في النازلة وتطبيق القانون، ناصحا أعضاء حزبه بعدم المشاركة في التظاهرات المحتمل خروجها إلى الشارع، فيما حزب الأصالة والمعاصرة دعا أعضاءه إلى المشاركة في التظاهرات وحمل المسؤولية لوزارة الفلاحة والصيد البحري قبل أن تنتهي التحقيقات ويعرف المسؤول عن «فرم مول الحوت».. بدون تعليق.
لو كان في البلاد قضاء مستقل، ومؤسسات ديمقراطية، وقانون للحساب والعقاب، لما انتاب الدولة كل هذا الخوف من اندلاع انتفاضات جديدة في الريف وغير الريف. لو كانت في البلاد سلطة تحترم القانون وتقدس كرامة البشر لبقي الحادث معزولا، ولكان بلاغ من الوكيل العام للملك كافيا لتهدئة الخواطر، لكن تلاعب السلطة بالقضاء وهيبته جعلها في قفص الاتهام طوال الوقت، وعدم ثقة المواطنين في السلطة جعلها خصما وليست حكما.
هذا الزلزال الذي ضرب الرأي العام يعطي فكرة عن صعوبة استمرار المفهوم القديم للسلطة في الاشتغال بالمغرب، ويعطي فكرة عن تخلف تلفزات العرايشي، وإهانتها لذكاء المغاربة عندما تتجاهل الأحداث الكبرى، ويعطي الحادث فكرة عن قوة الرأي العام المسلح بوسائل التواصل الاجتماعي في مغرب اليوم، ويعطي فكرة أخيرا عن نوع الحكومة المطلوبة مستقبلا لإقناع الناس باستعادة الثقة في الدولة.