بقلم : توفيق بو عشرين
سؤال واحد على لسان الخاص والعام: من يعرقل ولادة الحكومة الثانية لعبد الإله بنكيران؟ من يضع العصا في عجلة الأحرار والحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي، ويمنعهم من دخول خيمة الأغلبية الجديدة، ماداموا جميعا يتوقون إلى كراسي الوزارة، ولا يتمنون الجلوس على مقاعد المعارضة؟
لا أحد وسط النخبة والشعب يصدق أن أخنوش دمغ في يوم واحد حزب الحمامة بطابع الاستقلالية، التي لم تولد معه منذ تأسيس التجمع في 77 على يد صهر الحسن الثاني، ولا أحد يصدق أن الحركة الشعبية (شعبية نيت) اكتشفت، بين ليلة وضحاها، مزية المعارضة، وقررت تطليق الحكومة التي تربت فيها منذ نعومة أظافرها، ولا أحد يصدق أن الاتحاد، الذي شارك في حكومة جطو التقنوقراطية وحكومة الفاسي المترهلة، يجد صعوبة اليوم في دخول حكومة بنكيران الذي حصل على نتيجة قياسية في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية… لم يسبق لأي حزب أن ربط نفسه بموقف حزب آخر، كما يفعل العنصر مع الأحرار، ولم يسبق لأي حزب تعرض لعقاب شديد من الناخبين (نزل من 52 مقعدا إلى 37 مقعدا في مجلس النواب)، ومع ذلك يأتي لفرض شروطه على «المنتصر»، ويطالب بإبعاد حزب آخر عن المشاركة في الحكومة، وكأنه هو المكلف بتشكيل الحكومة.
يبقى الجواب المنطقي عن هذا البلوكاج هو أن وراءه «مايسترو» يحرك القطع من خلف الستار، ويرسم لكل طرف دوره في مسرحية معدة سلفا… والغرض هو الالتفاف على نتائج الاقتراع، أولا، وإضعاف بنكيران وحكومته المستقبلية، ثانيا، وإنعاش مشروع «التحكم» الذي تعرض لانتكاسة كبيرة في السابع من أكتوبر، ثالثا.
المغاربة يقولون في مثل هذه الظروف: «اللي كيحسب بوحدو كيشيط ليه». ها هو بنكيران يتجه إلى إرجاع المفاتيح إلى صاحبها، والذهاب إلى بيته بعدما أعطاه التصويت في الاقتراع الأخير حوالي مليوني صوت و30٪ من مجموع الأصوات المعبر عنها (في إسبانيا حصل الحزب الشعبي، في آخر انتخابات تشريعية، على 33٪ من الأصوات المعبر عنها، وها هو يقود حكومة أقلية، وفي تركيا حصل حزب العدالة والتنمية على 34٪ من الأصوات فقط، لكنها أعطته 56% من المقاعد في البرلمان، وهذا بفضل نظام الاقتراع العقلاني والعادل في كلا البلدين).
أسوأ سيناريو في حق التطور الديمقراطي في المغرب هو استمرار حالة التفسخ السياسي الحالي، ووضع «التجرجير وبهدلة الطبقة السياسية» إلى أن يتدخل القصر، بطلب أو بدون طلب، ليساعد بنكيران في إيجاد أغلبية خارج الدستور وخارج الأعراف الديمقراطية. في هذه الحالة ستخرج الحكومة من الخيمة «مايلة»، وسيتعرض بنكيران وحزبه لعملية ابتزاز كبرى سيضعون فيها جلدهم وجلد من صوت لهم، وستولد حكومة ضعيفة وغير متجانسة ومرهونة القرار.
أما أفضل سيناريو يمكن أن يتحقق، دائما من وجهة نظر التطور الديمقراطي واستقلالية العمل الحزبي ونضج المشهد الانتخابي، فهو «انتفاضة» بنكيران في وجه الأحزاب الميتة، ورفض ابتزازها، وإرجاع الأمانة إلى صاحبها، والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة، بعتبة وطنية معقولة، ونظام انتخابي عقلاني يفرز أغلبية واضحة ومعارضة لها ملامح معروفة، وآنذاك سنعرف وزن كل طرف في المجتمع، وسيحصل المغاربة على الحكومة التي يستحقونها.
أتعرفون متى كتب الفصل 47 من الدستور الذي ينص على أن «يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي يتصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها». هذا الفصل، الذي قطع الطريق على التقنوقراط للوصول إلى رئاسة الحكومة لأول مرة في تاريخ المغرب، كُتب يوم انتهكت المنهجية الديمقراطية، وجرى تعيين إدريس جطو، يوم الأربعاء 9 أكتوبر 2002، وزيرا أول مكان عبد الرحمان اليوسفي، الذي جاء حزبه في المرتبة الأولى في انتخابات أكتوبر 2002، ومع ذلك أبعد عن منصب كان يستحقه، وبقية للقصة معروفة.. آنذاك كتب هذا الفصل، ولم يخرج إلا سنة 2011، بعدما خرج الشباب إلى الشارع يدقون أبواب الإصلاح الدستوري التي كانت موصدة. الآن أرى خلف الأزمة الحالية لتشكيل الحكومة بداية نهاية نظام الاقتراع الحالي، المسؤول عن البلقنة التي نراها الآن والبلوكاج القائم، وأرى قلما يكتب مشروع قانون جديد للاقتراع المقبل، يقطع الطريق على الألاعيب الداخلية لمعاقبة الأحزاب الكبرى، والالتفاف على إرادة الأمة، والمساس بالاختيار الديمقراطي، وإدامة لعبة التوازنات القاتلة للروح الديمقراطية.