بقلم : توفيق بو عشرين
لغز جريمة البلوكاج على وشك الحل، والطريق إلى تشكيل الحكومة الثانية لبنكيران أصبح شبه سالك، بعدما ضبط موقع 360، التابع للجهات إياها، ومواقع صديقة له ومتعاونة معه، المتهمين بالوقوف وراء هذا البلوكاج. لقد تعرف ضابط إيقاع موازين على المشتبه بهم، وألقى القبض عليهم متلبسين بجريمة عرقلة ميلاد الحكومة الجديدة بعد 70 يوما من إعلان عن نتائج الاقتراع. إنها عصابة من أربعة عناصر أوقفها ضباط الصحافة قبل أيام وتضم: المدعو جامع المعتصم، مدير ديوان رئيس الحكومة، ومحمد رضى، المهندس والموظف السابق في وزارة المالية، والصحافي توفيق بوعشرين، مدير جريدة «أخبار اليوم»، وعبد العلي حامي الدين، عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية والمستشار بالغرفة الثانية. هؤلاء المتهمون لم يستجوبهم أحد، ولا أخذوا أقوالهم قبل توجيه التهمة إليهم بتشكيل «خلية نشيطة» تعمل، ليل نهار، من أجل منع إخراج الحكومة الجديدة، وأن عزيز أخنوش، الذي وضع شرطا غريبا لدخول الأغلبية ممثلا في إبعاد حزب الاستقلال، بريء من تهمة البلوكاج، والجهات التي خططت للبلوكاج كسيناريو محتمل حتى قبل فوز البيجيدي بريئة، وأن التعليمات التي صدرت للضباط الأحرار وزملائهم في الحركة الشعبية بعدم دخول الحكومة، رغم أنهم لا يعرفون للسياسة طعما خارج مقاعد الوزراء، مجرد إشاعة، وأن الحياة السياسية في المغرب لا تختلف في شيء عن الحياة السياسية في الدانمارك، فالأحزاب مستقلة، وقرارها محفوظ، وإرادتها لا تتأثر باتجاه الريح. إذن، يبقى المتهمون الأربعة في قفص للاتهام لأنهم يؤثرون في قناعات رئيس الحكومة، ألا يدافع المدعو بوعشرين عن تطبيق الدستور؟ ألا يدعو إلى احترام إرادة الناخب؟ ألا يعلي من روح السابع من أكتوبر؟ ألا يَرَى في أحرار أخنوش بام ثانيا بعد احتراق البام الأول؟ ألا يضع الملياردير أمام تناقضاته، وأمام حقيقة سعيه إلى اقتسام كرسي رئاسة الحكومة مع بنكيران؟ ألا يدعو إلى الرجوع إلى صناديق الاقتراع لحسم هذه الأزمة الدستورية؟ ألا يرى في تدخل «مول الغاز» في تركيبة الأغلبية المقبلة محاولة لتحريف مضمون الفصل 47؟ ألا يرد على دعوى خرق الدستور، التي تنصح الدولة بتعيين رئيس الحزب الرابع في ترتيب الانتخابات رئيسا للحكومة لأن بنكيران فشل في جمع شتات أغلبية في مشهد مبلقن؟
اتهام العبد لله هذا بالمشاركة في جريمة بلوكاج الحكومة تهمة لا ينفيها وشرف لا يدعيه، فطموح أي صحافي أن يصبح مؤثرا في الشأن العام، ولهذا، خلقت الصحافة التي لا تعرفها المواقع الصديقة للسلطة، والمنشورات المكلفة بمهمة، والأقلام التي تكتب تحت الطلب وتتحرك تحت الطلب، ولو استدعى ذلك الدخول إلى غرف النمو والدردشة والنهش في أعراض الناس، وترك أصحاب السلطة الحقيقيين بعيدين عن الأضواء، خوفا وطمعا ورهبة.
أيها «الزملاء»، إن عقول الناس ليست أكياسا نعبؤها بكل ما يقع عندنا من طلبيات. المغربي أصبح أكثر وعيا مما يتصوره من يفترض أنهم على اتصال مع الرأي العام. وحتى نخرج من النظري إلى التطبيقي، ومن ترصيص الجمل إلى تأمل الأرقام التي لا تكذب عادة، فلنتأمل عدد الأصوات التي حصل عليها حزب بنكيران ما بين انتخابات 2011 و2016، أي أثناء خمس سنوات تعرض فيها لقصف عنيف وغير مسبوق من جل الصحف والمواقع والمجلات والإذاعات والتلفزات.. قصف استعمل كل الأسلحة، حتى المحظورة منها والممنوعة أخلاقيا ومهنيا، فماذا كانت النتيجة؟ ربح الحزب أكثر من 400 ألف صوت زيادة في أكتوبر الماضي، ونجح كل الذين تعرضوا لمحاولة التدمير بأصوات عالية. فازت لائحة بوليف في طنجة بأكثر من 60 ألف صوت، وفازت لائحة عبد الله بوانو في مكناس بأكثر من 47 ألف صوت، وفازت لائحة الرباح في القنيطرة ويتيم وماء العينين بأرقام عالية من الأصوات؟ هذا له معنى وتحد، أن عقول الناس ليست «خنشة»، وأن الرأي العام يستطيع أن يميز بين صناعة الإعلام وصناعة الكذب، بين الأخبار والإشاعات، وبين الآراء وتسميم الجو، بين الصحافة التي تدافع عن الخيار الديمقراطي والصحافة التي تدافع عن الخيار السلطوي، صراحة أو من وراء حجاب. عندما تترك الصحف مهمتها الرئيسة، المتمثلة في البحث عن الأخبار التي تهم القارئ، وتتفرغ للكتابة عما بقي في الصحافة من استقلالية وضمير، واستعمال ومضات الحاسوب وورق الجرائد ومداد الصحف للكذب والتشهير وتصريف الأحقاد الصغيرة، فاعلم أن هذا هو عنوان الإفلاس الكبير. قال «balzac» يوما، منتقدا نوعا من الصحافة في بلاده: «الصحافة منجنيق كبير يستعمل لقذف أحقاد صغيرة جدا».
سي بي سكوت (1864-1932) كان رئيس تحرير «مانشستر غارديان»، وكان يحمل الرقم القياسي في رئاسة التحرير، فقد بقي في المنصب 59 سنة. وسكوت.. هذا المعلم الكبير، كتب افتتاحية في 5/5/1921، مما جاء فيها: «الجريدة، والإعلام عموما، نوع من السلطة، وواجب الإعلام الأول هو تجنب إغراء هذه السلطة، والحذر من السقوط في عيوبها. الصحيفة عملها الأساسي جمع الأخبار. وللمحافظة على نقاء روحها، يجب أن تتأكد من أن الأخبار غير ملوّثة، سواء ما نشرته منها أو لم تنشره، أو في طريقة عرضها. وجه الحقيقة يجب ألا تظلّله الغيوم. التعليق حر، لكن المعلومات مقدسة».
هذه ليست دروسا لأحد، ولا مواعظ للاستهلاك.. هذه طريقة أخرى لقراءة المشهد الإعلامي المغربي المعطوب، الذي يتحول فيه صحافي إلى المسؤول الأول عن أكبر أزمة سياسية في البلد!
المصدر :صحيفة اليوم24