بقلم : توفيق بو عشرين
كلما طال الفراغ السياسي في المملكة، نتيجة تأخر تشكيل الحكومة وغياب توافق وطني لإكمال الرحلة، تلوث الجو السياسي، وبدأ كل طرف يبحث عن علبة بريد لبعث رسائله إلى الطرف الآخر، حتى إن المواطنين بدؤوا يتندرون على هذا الفراغ السياسي العبثي، ويقولون: «ما حاجتنا إلى حكومة؟ المطر نزل، والمنتخب تأهل، والمغرب رجع إلى الاتحاد الإفريقي».
هذه نكتة سوداء لا تثير الضحك، بل تثير الخوف على مستقبل البناء المؤسساتي للدولة، والخوف على الوضع الاقتصادي وعلى صورة البلد في الخارج، حيث لم يسبق للمملكة أن عاشت فراغا سياسيا لمدة 140 يوما، سوى في الحكومة التي أعقبت الانقلاب العسكري الأول سنة 1971، حيث رفضت أغلبية الأحزاب المشاركة في الحكومة خوفا على سلامتها، في جو لم يكن يبعث على الاطمئنان، عكس ما يجري الآن، حيث جل الأحزاب تتهافت على المشاركة في حكومة لا يريد لها أحد أن تتشكل في قالب نتائج السابع من أكتوبر، بل يريدونها حكومة بلا طعم ولا لون ولا رائحة، ليقولوا للناخبين الذين مازالوا يثقون في قدرة صندوق الاقتراع على إفراز من يحكم: «سيرو تنبگو».
في نهاية الأسبوع، قال بنكيران جملة انتشرت بسرعة في مواقع التواصل الاجتماعي، ولقيت رواجا كبيرا على صفحات الفايسبوك، حيث قال: «لا يمكن أن يذهب جلالة الملك إلى إفريقيا ليفرج الكربات عن بعض شعوبها، ونحن هنا نهين الشعب المغربي»، ثم خرج يوم أمس ليوضح معاني هذه الجملة، التي تم إعطاؤها تأويلات عدة، بالقول: «بعض المغرضين الذين لا يستحيون أخرجوا هذه الجملة من سياقها. أنا قلت إنه من غير المعقول أن يأخذ إشعاع المغرب بعدا إفريقيا ودوليا، في حين أن الأحزاب السياسية في المغرب مازالت ‘‘حاصلة’’ في تشكيل الحكومة. لنرجع شيئا ما إلى الديمقراطية ونحكمها».
إن جل الألغام السياسية التي تفجرت، طيلة الأربعة أشهر الماضية، كانت نتيجة الفراغ السياسي القاتل الذي يخيم على المملكة الآن، ويعطل، دون مبرر منطقي، خروج الآلة التنفيذية إلى ساحة العمل، ومن ذلك أزمة الدولة مع شباط، وخروج الصراع بين الطرفين عن حدود التحكم إلى درجة غير مسبوقة في كل تاريخ حزب الاستقلال، حتى وصل الأمر إلى خروج مستشار ملكي عن واجب التحفظ في التلفزة الرسمية للرد على شباط بخصوص موريتانيا، أما رد شباط فلم يتأخر، فعمد إلى تجميد عضوية زوجة شقيق المستشار الملكي في الحزب لمدة سنة ونصف، وبعدها نشبت أزمة كبيرة في البيت الاستقلالي تهدد بإضعاف حزب علال الفاسي، ودفعه إلى أن يلقى مصير حزب عبد الرحيم بوعبيد.
ومن آثار الفراغ السياسي في الجهاز التنفيذي، كذلك، الاحتجاجات التي اندلعت في الريف بعد مقتل بائع السمك بطريقة درامية، حيث غابت المعالجة السياسية وحضرت المقاربة الأمنية فقط، إذ لا يوجد من يتحدث مع الناس هناك عن مشاكلهم وعن إحساسهم بالحكرة. ومن آثار الفراغ السياسي الذي نتج بعد إعلان نتائج الانتخابات، التي لم تكن مرحبا بها في دوائر القرار، سوء العلاقات بين الأحزاب المرشحة لأن تكون في الحكومة وتلك غير المرحب بها، حيث صعد، ولأول مرة، رئيس إلى مجلس النواب مطعون في شرعيته السياسية، صوتت لصالحه أحزاب الإدارة ضدا على إرادة الحزب الأول والحزب الثالث في البرلمان. وعوض أن يدخل رئيس مجلس النواب من الباب، دخل من النافذة كوسيلة ضغط غير نظيفة لإدخال الوردة الذابلة إلى حكومة بنكيران، وهو الأمر الذي دفع الأخير إلى شن حملة على لشكر واختياراته. الأمور لم تقف هنا، بل إن نيرانا صديقة اندلعت بين أخنوش وبنكيران، وبين لشكر وبنعبد الله، وبين العنصر والعدالة والتنمية، وخرجت ملفات سوداء من الدرج، وتم تبادل اتهامات حول ملايير الدولارات من أموال الدعم وعن مصيرها، وفي الأخير، أصبحنا أمام دمار شامل في قلب المشهد السياسي، الذي لم تعد هناك قواعد تؤطره ولا منطق يحكمه.
لقد عادت الحرارة إلى الشارع، وبدأت الاحتجاجات تتصاعد، والغضب يتسع، وهذا طبيعي لأن الحكومة غائبة، وبرنامج الإصلاحات غير موجود على الطاولة، والذي سيحاور المتضررين معتكف في بيته يبعث الإشارات عن نفاد صبره، واستعداده للنزول إلى المعارضة، والأمل في غد أفضل يخبو يوما بعد آخر، والبطالة في ازدياد، وأكثر من 70 ألف عاطل عن العمل يئسوا من البحث عن الشغل، والدولة تعطي العدل والإحسان هدايا لتشعل أعواد الثقاب في حطب يابس وحرارة مرتفعة.
الذي لا تعجبه نتائج الاقتراع، ولا يروقه بنكيران، ويخاف المصباح، ما عليه إلا أن يعطي المغاربة بديلا آخر وحلا لهذا الوضع الكارثي، لكن الإبقاء على الفراغ السياسي لأطول مدة ممكنة هو أسوأ سيناريو يمكن أن تعرفه المملكة، التي تأكل كل يوم من رصيدها السياسي وسمعتها الدبلوماسية. يقول مثل فرنسي قديم: «c’est dans le vide de la pensée que s’inscrit le mal». فراغ السياسة جزء من فراغ الفكر، والفاهم يكمل من عندو.