بقلم - توفيق بو عشرين
يعرف الإنسان العادي، وحتى الشخص متوسط الذكاء، أن المشاكل لا تحل نفسها بنفسها، وأن مرور الزمن يعقد المشاكل، في غالب الأحيان، ولا يحلها، وأن مقولة «كم حاجة قضيناها بتركها» مقولة خاطئة تماما، وتخفي خلفها العجز ونكران الواقع، لكن، ما رأيكم أن الدولة عندنا لا تؤمن بكل هذه الحقائق، وترى المشاكل أمامها، وحتى الأزمات، فتهرب منها، وتتركها للوقت، أو للقدر، أو للسماء، أو لعباد الله غير القادرين على حلها، وعندما تقع الفأس في الرأس، تصرخ وتولول وتقول: ماذا جرى؟ ومن أنتم… تريدون دليلا على هذا الكلام؟ إليكم أكثر من واحد.
قبل 20 سنة أقفلت الدولة مناجم جرادة، لأن تلك المناجم لم تعد مربحة، وأصبحت كلفة استخراج الفحم الحجري من باطن الأرض أكبر من عائداته، فقررت الحكومة إغلاق الشركة، التي كانت هي عصب النشاط الاقتصادي في المدينة المنجمية، وذهبت الدولة لتنام في الرباط قريرة العين، لأنها حلت مشكلة توازن الشركة المالي، ولم تفكر إطلاقا في إيجاد بديل اقتصادي يضمن عيش آلاف الأسر، التي كانت تأكل من وراء استخراج الفحم الحجري من تحت الأرض. اكتفت الدولة بصرف تعويضات رمزية للعمال المرضى، وأغلقت هذا الملف، فماذا جرى؟ بدأ الناس، بقلة حيلتهم، يبحثون عن بديل، ولو كان خطيرا، فالموت ليس أخطر من الجوع، والإهانة أفظع من الحياة بلا كرامة. بدأ شباب جرادة في النزول إلى الأرض دون معدات ودون خبرة، ودون إجراءات السلامة، لاستخراج الشاربون من الساندريات وبيعه في السوق السوداء، وهنا بدأت دراما أخرى، وهي موت الشباب اختناقا تحت الأرض… مات الأول والثاني والثالث، وبدأ عداد القتلى يدور دون توقف، والدولة والحكومة تتفرجان، ولا تفكران حتى في إيجاد حل، مادام الناس في جرادة يدفنون موتاهم ويكفكفون دموعهم، ويعودون إلى منازلهم في انتظار جنازة أخرى، حتى جاء اليوم الذي وصل فيه صبر الناس إلى نهايته، وشعروا بأنهم قوم منسيون في هذه القطعة الجغرافية المهملة، فخرجوا كبارا وصغارا، أطفالا وشيوخا، رجالا ونساء، في مسيرات حاشدة يطالبون فيها ببديل اقتصادي، أي بقطعة من الخبز. وحتى لا يتهمهم وزير الداخلية، مرة أخرى، بالانفصال أو العمالة أو العنف، رفعوا أعلام البلاد وصور الملك، ونظموا أنفسهم في مسيرات سلمية دون خطاب سياسي، ولا شعارات غاضبة، فماذا كانت النتيجة؟ جاء عندهم الوزير «الغماق»، المدعو قيد وزارته عزيز الرباح، وبدأ يفلسف العجز، ويطلب من الناس أن يفكروا مع الحكومة في حل لهذا الوضع المزري، وقال، في آخر استجواب صحافي معه في تلفزة طنجة: “بصراحة، ليس لدينا تصور واضح عن البديل للمناجم في جرادة، وطيلة 20 سنة لم يتضح بعد هذا البديل”.
منذ 20 سنة لم يفكر وزير ولا عامل ولا والٍ ولا وكالة ولا مجلس بلدي في بديل لعيش 40 ألف مواطن يموتون بالتقسيط في حفرة مهجورة.. ما اسم هذا؟
إليكم مثالا ثانيا عن استقالة الدولة من مهامها الاقتصادية والاجتماعية (نقول هنا الدولة وليس فقط الحكومة أو الهيئات المنتخبة، لأن السلطة الحقيقية لا توجد في يد الحكومة ولا في يد المجالس المنتخبة، وإن كانت المسؤولية مشتركة بين الجميع). منذ 2008، نزلت تحويلات المهاجرين الريفيين إلى الحسيمة بفعل الأزمة الاقتصادية الخانقة في أوروبا، وتزامن هذا الشح الكبير في التحويلات من الخارج إلى الأهل في الريف، مع جهود الدولة الحثيثة لتقليص مساحة زراعة الكيف، ومحاربة صناعة المخدرات وتسويقها وتصديرها إلى أوروبا، وكلها أنشطة كانت تدر مليارات الدراهم على المنطقة التي تعيش بفلاحة معاشية صغيرة، وصيد أسماك متذبذب، دون صناعة ولا تجارة ولا خدمات ولا بنيات تحتية تشجع الاستثمار على الاستقرار في المنطقة… وطيلة عشر سنوات، كانت الأزمة تطبخ على نار هادئة، والدولة مخدرة تماما، رغم أنها ترى نزول التحويلات من الخارج للمنطقة التي يعيش بها آلاف السكان، وتلحظ نزول عائدات المخدرات التي تحرك عجلة الاقتصاد.. لم تفكر الدولة في إيجاد بديل اقتصادي لمنطقة فيها كل المواد القابلة للاشتعال، حتى قتل تاجر سمك في شاحنة أزبال في أكتوبر 2016، فاندلعت انتفاضة الريف التي لم تهدأ إلى الآن، والمتهمون الـ400 رهن الاعتقال، منهم من حكم عليه ومنهم من ينتظر. كل المؤشرات كانت تقول إن الوضع لا يمكن أن يستمر على ما كان عليه، وإن الهدوء الذي كان باديا على ملامح الريفيين كان الهدوء الذي يسبق العاصفة، لكن لا أحد دق ناقوس الخطر، فالدولة كانت مشغولة بهندسة الانتخابات، والسلطة كان هاجسها هو ارتفاع أسهم بنكيران في بورصة السياسة، وليس نزول أسهم المواطنين في بورصة الكرامة.
مرة، سئل العبقري ألبرت أينشتاين: ما هي المسألة التي لم تجد لها حلا طوال مسارك العلمي الناجح؟ فقال صاحب نظرية النسبية: “مسألة واحدة لم أفهمها إلى الآن، وهي أن بعض البشر يقوم بالأفعال نفسها، في الظروف نفسها، وبالعوامل نفسها، وينتظر كل مرة نتائج مختلفة… هذه معضلة لم أفهمها”.