الحل ليس في القانون الجنائي

الدار البيضاء اليوم  -

الحل ليس في القانون الجنائي

بقلم : توفيق بو عشرين

نفد صبر الدولة على حراك الريف، ودفعها الخوف من تمدد رقعة الاحتجاجات إلى مدن أخرى إلى إخراج الحل الأمني، الذي ظل مستبعدا من إدارة الأزمة لمدة ستة أشهر، وكانت النقطة التي أفاضت الكأس هي انتقال الاحتجاج من الفضاء المدني في الشارع إلى الفضاء الديني في المسجد، حيث لم تعتد الدولة المنافسة في هذا الفضاء الرمزي الذي تحتكر فيه السلطة الكلمة والقول في الدين وفي السياسة معا، لهذا سارع وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى إصدار بلاغ ناري يعتبر ما وقع في مسجد محمد الخامس في الحسيمة سابقة من نوعها، واعتداء على حرمة المساجد، وبعده تحرك الوكيل العام للملك معلنا الأمر باعتقال ناصر الزفزافي بجنحة تعطيل العبادات، كما ينص على ذلك الفصل 221 من القانون الجنائي (طبعا لم ينتبه الوكيل العام للملك بالحسيمة إلى أن هذا الأمر من اختصاص وكيل الملك، مادمنا أمام جنحة وليس جناية «المادة 49 من المسطرة الجنائية»، وأن الأمر بالاعتقال لا يجوز في الجنح، مادامت لم توجه إلى الزفزافي التهمة بعد، وأن أقصى ما يمكن فعله هو استدعاء المشتبه به للاستماع إليه لدى الشرطة القضائية تحت إشراف النيابة العامة المختصة).

عندما تتوتر الأعصاب لا يسأل أحد عن القانون ومساطره وشكلياته، التي هي في العمق ضمانات المحاكمة العادلة. المهم وقع المحظور يوم الجمعة، فالدولة قررت إنهاء الهدنة مع الحراك، بعدما اعترفت بمشروعية مطالبه، والمرور إلى الاعتقالات في صفوف الشباب الذين يحركون الاحتجاجات. بدوره، انزلق الحراك في الريف إلى مهاجمة القوة العمومية بالحجارة، والمس بسلمية الاحتجاجات التي ظل ناصر الزفزافي ورفاقه لأشهر عدة يتمسكون بها، ويعتبرونها سلاحهم الأهم في هذه المعركة… هل كان ضروريا أن تبعث وزارة الأوقاف بخطبة «التحذير من الفتنة» إلى مساجد الحسيمة في خلط بين السياسة والدين في توقيت حرج؟ وهل كان ضروريا أن يقاطع ناصر الزفزافي الإمام في المسجد، ويأخذ الكلمة منه وهو يتوفر على منبر أقوى لتصريف خطابه على اليوتيوب وفي الفضاء المدني العام؟

إلى أين ستقود هذه التطورات الدراماتيكية؟ ستقود إلى مزيد من الاحتقان والغضب وعدم الثقة في وعود الدولة، سواء انطفأت الحركات الاجتماعية مؤقتا، أم اشتعلت أكثر. في كلتا الحالتين، الاعتقال والسجن والقانون الجنائي والبوليس والدعاية في التلفزيون وفي المساجد… كلها أساليب قديمة لم تعد تنفع في المغرب، أمام ثلاثة أنواع من المتغيرات حدثت في العشر سنوات الأخيرة، ومنها:

1- سقوط جدار الخوف في نفوس المواطنين، نتيجة تجذر الأزمة الاجتماعية والاقتصادية من جهة، ونتيجة ارتفاع الطلب على الكرامة والحرية والعدالة، وهذا الطلب واحد من مكاسب الربيع الذي أجهض قبل سنوات، وبقيت بعض بصماته عالقة في النفوس والعقول تنتظر الوقت المناسب للخروج.

2- سقوط كل أنواع الوساطات التقليدية بين الدولة والمواطن (الأحزاب، النقابات الجمعيات، المنتخبون، الأعيان…)، وهذا ما فتح المجال لبروز جيل جديد من الزعامات غير متحكم فيه، يستعمل خطابا قويا وصريحا تراه الدولة راديكاليا وغير مألوف، في بيئة سياسية أصبحت فيها جل النخب شبه مخصية سياسيا.

3- بداية نهاية تحكم السلطة في المجال العام، وضعف قبضة الداخلية على الحراك الاجتماعي والسياسي الذي اتسع كثيرا، فأصبح عصيا على التطويق من جهة، ومن جهة أخرى أصبح هذا الحراك ذكيا يعتمد وسائل تعبئة خارج نفوذ وتحكم الدولة (مواقع التواصل الاجتماعي المحمولة في هواتف الجيب).

كل هذه التحولات العميقة في بنية مجتمع في طور الانتقال -مضاف إليها فشل مسار الإصلاحات السياسية كما بشر به بنكيران وحزبه تحت عنوان الإصلاح في ظل الاستقرار- دفعت الجبهة الاجتماعية إلى الانفجار، ودفعت الشباب إلى جر الدولة و«المخزن» إلى المساءلة والمحاسبة، ليس في المجال السياسي المعقد والمسيج بقيود كثيرة، وليس في صناديق الاقتراع التي فقدت جاذبيتها، بل عمد الشباب إلى جر الدولة للمساءلة في الحقل الاجتماعي الذي يعرف خصاصا كبيرا لا ينكره أحد (مثل الأقرع أينما ضربته يسيل دمه). هنا يسهل تصريف الموقف السياسي في غلاف اجتماعي واقتصادي وثقافي وحقوقي يصل إلى جميع المحرومين، خاصة الشباب منهم، الذين يستدعون إلى النضال السلمي في الشارع العام من أجل تحقيق شروط العيش الكريم، التي يعرف أو لا يعرف القائمون على هذا الحراك أنها لن تتحقق دون ديمقراطية حقيقية، ودون مؤسسات لدولة الحق والقانون، ودون مشروع إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي ترعاه حكومة منتخبة ونخب حرة وأحزاب لها تمثيلية.
لهذا، الحل ليس في القانون الجنائي.. الحل في مكان آخر تماما.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحل ليس في القانون الجنائي الحل ليس في القانون الجنائي



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 12:41 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تبدو مرهف الحس فتتأثر بمشاعر المحيطين بك

GMT 09:52 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

أمطار صيفية تعزل دواوير ضواحي تارودانت

GMT 07:59 2018 الأحد ,15 تموز / يوليو

"بورش" تحتفل بالذكرى الـ70 لسيارتها الأولى

GMT 16:15 2018 الجمعة ,29 حزيران / يونيو

سامح حسين يكشف عن الأفيش الأول لـ"الرجل الأخطر"

GMT 08:36 2018 الأربعاء ,20 حزيران / يونيو

النفط ينخفض مع تهديد الصين برسوم جمركية على الخام
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca