بقلم : توفيق بو عشرين
خرج المواطنون في عشر جهات من أصل 12 جهة في المملكة يحتجون على القتل غير الرحيم الذي لاقاه الشاب محسن فكري في شاحنة للأزبال بإمزورن، بضواحي الحسيمة. تظاهر الكبار والصغار في أكثر من 13 مدينة في وقت واحد (السادسة من مساء الأحد الماضي)، وخرجوا جميعا لدواع إنسانية وحقوقية ثم سياسية.. خرجوا لينفسوا عن الغضب والحزن الذي أحسوا به عقب حادثة «طحن مو».
في الحسيمة، خرجت الساكنة، كما لم تخرج من قبل، لوداع محسن فكري، وبدت الجنازة رهيبة، والجو مملوءا بسحب الغضب، وكذلك فعل المغاربة في طنجة وتطوان والرباط والدار البيضاء ومراكش وأكادير ومكناس وفاس والناظور والعرائش وتارودانت وغيرها… كان الشعار واحدا: «لا للحگرة»، لا للتلاعب بأرواح المغاربة، وكم بدا وزير الداخلية، محمد حصاد، مثيرا للشفقة وهو يحل في الصباح الباكر في بيت الشهيد لتهدئة الخواطر ومعه رئيس المجلس العلمي (الغطاء الديني)، والعامل ممثل الدولة (الغطاء الإداري)، لتقديم العزاء، وتبليغ العائلة الرسالة الملكية التي تعد «بإجراء بحث معمق، ومتابعة كل من ثبتت مسؤوليته في هذا الحادث، مع التطبيق الصارم للقانون».
ما هي رسائل هذه التظاهرات الاحتجاجية التي عمت المدن الكبرى للمملكة، وجعلت من جنازة محسن فكري جنازة أمة كاملة، وذكرت الناس باحتجاجات 20 فبراير؟
الرسالة الأولى: لم تعد الأحزاب ولا النقابات ولا الجمعيات ولا السلطة قادرة على تأطير أو منع المغاربة من الخروج إلى الشارع، والتظاهر في الفضاء العام، وحمل الشعارات والمطالب، واختيار المكان والزمان للاحتجاج على قضية أو حادثة. خرج كل هذا من يد الفاعلين التقليديين، وأصبح المجتمع يعبر بحرية وتلقائية عن مطالبه ومشاعره وغضبه متى أراد. لقد كان كافيا أن تصدر دعوة إلى التظاهر في العالم الافتراضي (الفايسبوك) لتتحقق في العالم الواقعي، أي الشارع، بعد 24 ساعة. هذا معناه أن الحدود بين الواقعي والافتراضي لم تعد موجودة، وهذا مؤداه أن جهاز الدولة وإعلامها وصحفها وإذاعاتها وخطابها وسلطتها ومؤسساتها الاجتماعية والدينية والثقافية كلها أصبحت فاعلا ثانويا في حركة المجتمع، وأن وسائل الاتصال الحديثة أصبحت هي المؤطر الأول للمجتمع، من خلال سرعة وكثافة انتشار المعلومة، ومن خلال الربط والتشبيك العالي بين الأفراد في مجتمع رقمي بلا قيود ولا حدود. هذه العملية التواصلية من الشساعة والتعددية بحيث يستحيل على أي أحد أو جهة أو جماعة أو حزب أن يوجهها أو يتحكم فيها، وهذا ما يسهم في تحرير عقول الناس وإرادتهم.
الرسالة الثانية: جل الشعارات التي رفعت في التظاهرات التي شارك فيها ما يقرب من 200 ألف مواطن كانت موجهة ضد «المخزن» و«الدولة» والأمن، حتى إن تظاهرتي الرباط والدار البيضاء توجهتا بشارة إلى ولاية الأمن في المدينتين، هذا يعني أن من خرج يحتج يحمل مسؤولية ما جرى -وحتى قبل نهاية التحقيق القضائي- لجهاز الدولة، أو ما يصطلح عليه بالمخزن، الذي يحتفظ بصورة سلبية جدا في مخيلة الناس وثقافتهم السياسية (هنا تتساوى الحقائق والانطباعات).
لقد آن الأوان لفتح ملف علاقة الأمن وعموم أجهزة الدولة بالمجتمع، والبحث عن كل الطرق التي تودي إلى إحلال حكامة أمنية ناجعة، وعلاقة احترام وثقة بين المغربي والمؤسسة الأمنية وجهاز الإدارة. لا يمكن للدولة أن تضع يدها على قلبها في كل مرة يقع حادث مثل هذا، ولا يمكن أن نعيش طوال الوقت خائفين على الاستقرار في بلاد يضطر فيها الملك في كل مرة إلى أن ينزل بثقله للتخفيف من حدة الأزمات، وبعث رسائل الاطمئنان إلى الشعب. هذا معناه أن المؤسسات تتلاشى عند كل أزمة ولا تعود تشتغل. لو كان القضاء في البلاد مستقلا ويتمتع بثقة الناس، كان يكفي أن يصدر بلاغ عن الوكيل العام للملك في الحسيمة حتى يشعر الناس بأن هناك قانونا يحمي الضعفاء من جور الأقوياء، لكن، ولأن في البلاد محاكم بلا عدالة، فلا أحد استمع إلى الوكيل العام للملك، الذي غادر فراشه يوم السبت في الثالثة صباحا ليقف إلى جانب عامل المدينة وسط الجموع الغاضبة.
الرسالة الثالثة: دلت التظاهرات، التي خرجت في 10 جهات من المملكة، أن في البلاد اندماجا ووحدة كبيرة بين العرب والأمازيغ، وحدة قل نظيرها في العالم الثالث الذي يعج بالفتن العرقية والطائفية والجهوية. في الريف يرفعون شعارات بالعربية، وفي البيضاء والرباط وطنجة وفاس ومكناس وأكادير ترفع شعارات بالأمازيغية، وعلى الأعلام يرفرف حرف تيفيناغ. إنها واحدة من المناسبات، على ما فيها من دراما إنسانية، التي يشعر فيها المواطن بمغربيته تخترق اللسان والعرق والجهة والقبيلة والانتماءات الصغيرة. لم يكن المغرب طيلة قرون بمثل هذا المستوى العالي من الاندماج بين ساكنته برغم كل الموروثات التي تغري البعض باللعب على الوتر العرقي، ولهذا، لا بد من مراجعة تلك المقولة التي تدعي أن الدولة يجب أن تبقى مركزية حتى تحافظ على الوحدة بين الأعراق، وأن النظام يجب أن يبقى سلطويا حتى يمنع الفرقة بين العرب والأمازيغ. يوم الأحد الماضي هتفت الأمة بكل لغاتها ولهجاتها وانتماءاتها بصوت واحد: لا للحگرة.