علبة الكبريت

الدار البيضاء اليوم  -

علبة الكبريت

بقلم - توفيق بو عشرين

إنه اللقب الذي أطلقه الرئيس المخلوع، حسني مبارك، على قناة الجزيرة يوم زار مقرها في الدوحة، تعبيرا منه عن الحرائق التي يتخيلها عقله العسكري مشتعلة في كل قطعة من بلاد العرب، جراء جرأة الجزيرة وتحريكها الشارع العربي الذي لم يعرف، إلى حدود 1996، تلفزيونا عصريا ينقل الحدث ولا يتصرف فيه، يحترم عقل المتلقي ولا يسخر منه.

علبة الكبريت هذه قال عنها دبلوماسي أمريكي مخضرم قبل سنوات: «إنها العملية السياسية الوحيدة الجارية في شرق أوسط جامد».. قناة الأخبار السيئة التي وضعت العالم العربي أمام حقائقه وأوهامه، صار رأسها مطلوبا اليوم من قبل دول المقاطعة العربية لقطر (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)، لأنهم يَرَوْن فيها إبرة توخز العقل السياسي والأمني في منطقة مشلولة منذ عقود، رغم أن السعودية والإمارات استثمرتا، في العشرين سنة الماضية، في الإعلام ما لم تستثمره أي دولة أخرى، إلا أن حديثي النعمة بالدولة وأجهزتها أيقنوا أن المال وحده لا يصنع التأثير، والرعاية لا تخلق المصداقية، والتلفزيون روح قبل أن يكون شاشة وقمرا اصطناعيا وتقنية وألوانا تخطف الأبصار.

رأس قناة الجزيرة هو البند السادس على قائمة المطالب التي قدمها محور المقاطعة مقابل «العفو» عن قطر، وإعادة إدماجها في حظيرة مجلس التعاون الخليجي، بلا أظافر ولا أنياب، ولا سيادة لا يقوم للدولة كيان بدونها، ولسان حال الرياض وأبوظبي والمنامة والقاهرة يقول: ‘‘إذا لم تقدر على صنع تلفزيون قوي وله تأثير، فهناك حل سهل.. أوقف تلفزيون جارك، وقطع عن بلاده الماء والحليب والخبز، واقفل الجو والبحر والبر أمامه، وهدده باستعمال القوة’’.. هذه أقصر طريقة لربح حرب الفضائيات المنتشرة كالأرز في حقول الصين.

لدي ملاحظات كثيرة على أداء قناة الجزيرة، وعلى خطها التحريري، وعلى خلطها أحيانا بين الخبر والرأي، وبين الحدث وما يجب أن يحدث، إلى درجة التماهي مع دبلوماسية بلدها، لكنها لا تفعل ذلك أسوأ من العربية وسكاي نيوز عربية، وغيرهما من القنوات التي تدور في الفلك السعودي الإماراتي. التحفظ المهني على أداء تلفزيون ممول من الدولة شيء، والموافقة على إغلاق فم الجزيرة وغير الجزيرة شيء آخر. لقد نجحت قناة الجزيرة، بعد عقدين من ميلادها، في ترك بصمات قوية على مجمل أداء الإعلام العربي، الذي راح يقلدها، عن حب أو عن كره، محاولا رفع هامش الحرية الذي كان قبل ظهورها ضيقا لا يدخل منه إلا الحاكم وبطانته ومن يرضى عنه ولي الأمر.

لم يسبق لدولة في العصر الحديث أن طالبت دولة أخرى بإغلاق قناة تلفزيونية لا تعجبها، ولم يسبق أن فرضت دول لم تخض حربا على دولة أخرى شروط استسلام مذلة، كما فعلت السعودية والإمارات والبحرين مع قطر، في محاولة لإعادة تعريف سيادة الدول، انطلاقا من مساحتها الجغرافية وتعداد سكانها… لهذا فوجئ العالم بـ«لائحة الشروط» التي قدمها الوسيط الكويتي إلى الدوحة، يطالب فيها الأشقاء بإعلان قطر دولة منزوعة السيادة، فإلى ماذا يرجع هذا الحمق العربي الجديد؟

أولا: لائحة البنود الـ13 تدل، بما لا يدع مجالا للشك، أن السعودية والإمارات والبحرين ومصر تخاف، حد الرعب، «ثورات الربيع الديمقراطي»، إلى درجة لا يتحملون فيها وجود قناة وجريدة وموقع ودولة صغيرة تؤيد حق الشعوب العربية في أن تختار مصيرها، حتى وإن كانت هذه الدولة لا تعطي النموذج المثال على ما تريده لبلدان أخرى. إذا كانت مناهضة قطر للانقلاب في مصر جريمة دبلوماسية، فهل تمويل انقلاب السيسي، من طرف الرياض وأبوظبي، على رئيس منتخب، ورعايته رعاية كاملة فضيلة دبلوماسية؟

ثانيا: تدل لائحة «بنود الاستسلام دون حرب»، التي أرسلها الأخ الأكبر في الخليج إلى جاره الصغير، أن الأول يشعر بالفشل في السباق نحو القوة الناعمة «Soft power»، كما صاغ مفهومها جوزيف ناي من جامعة هارفرد، لوصف القدرة على كسب التأثير والنفوذ بوسائل غير تقليدية، ليس بينها استعمال القوة العسكرية، مثل الإعلام والدبلوماسية واللوبيات ومراكز التفكير، والاستثمار في الرياضة وفي البحث العلمي وفي الاقتصاد الجديد… تشعر السعودية، رغم إمكاناتها المالية الهائلة، بأنها تخسر هذه المعركة، ولا تستطيع أن تجاري جيرانها في هذا المضمار، لأسباب عديدة، ولذلك، فإن الحل هو اختيار أرض نزال أخرى تتحكم فيها أكثر، وتستعمل فيها الورقة الأمريكية التي اشترتها برقم خيالي وصل إلى 460 مليار دولار للتخلص من الجار المقلق.

ثالثا: أصبحت السعودية تنعت في الأوساط الدبلوماسية الغربية بدولة الحسابات الخاطئة، حيث منيت دبلوماسيتها بخسائر فادحة ومتتالية، أولاها كانت في العراق، حيث لم تعرف كيف تستفيد من سقوط حكم البعث بيد جورج بوش الابن بعد تشجيعه على الإطاحة برأس صدام، فكانت النتيجة أن أعطي العراق على طبق من ذهب لإيران، وجاء الفشل الثاني في سوريا، حيث لم تفلح فلول الجماعات المسلحة التي جندتها الرياض ودول الخليج من كل حدب وصوب في إسقاط نظام الأسد، الذي وجد الفرصة لاستدعاء إيران وروسيا لقيادة ثاني بلد عربي يسقط في يد ملالي طهران، وجاء الفشل الثالث في اليمن حيث توهمت القيادة السعودية أن الحرب هناك ستكون نزهة ربيع قصيرة، وها هي الحرب تدخل سنتها الثانية دون حل في الأفق، حيث كان تأثير إيران على الحوثيين صغيرا جدا، وأصبح اليوم كبيرا إلى حد أن لا سلام ولا حرب في صنعاء دون قرار من طهران، والشيء نفسه يقع اليوم مع نازلة قطر التي استدعت تدخلا عسكريا تركيا، وإسنادا دبلوماسيا إيرانيا، وغدا ربما تدخلا روسيا لإعادة التوازن إلى المنطقة بعد الفوضى التي خلقتها الحسابات الخاطئة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

علبة الكبريت علبة الكبريت



GMT 15:52 2021 الثلاثاء ,16 آذار/ مارس

بايدن في البيت الأبيض

GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 19:53 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 08:23 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجدي الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 18:00 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تشعر بالانسجام مع نفسك ومع محيطك المهني

GMT 15:27 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

توقيف فتاة كانت بصحبة شاب على متن سيارة في أغادير

GMT 03:00 2017 الإثنين ,02 كانون الثاني / يناير

أنطوان واتو يجسّد قيم السعادة في لوحاته الفنيّة

GMT 18:55 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تمرّ بيوم من الأحداث المهمة التي تضطرك إلى الصبر

GMT 20:15 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

افتتاح المهرجان الدولي لمسرح الطفل في رومانيا

GMT 12:01 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

وجهات منازل رائعة استوحي منها ما يناسبك

GMT 09:29 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

أفكار مختلفة لترتيب حقيبة سفركِ لشهر العسل

GMT 08:44 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منظمة "ميس أميركا" ترفع الحد الأقصى لسنّ المتسابقات

GMT 09:08 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

أفضل الطرق لتنسيق تنورة الميدي مع ملابسك في الشتاء

GMT 14:11 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

جمعية خيرية تنظيم حملة للتبرع بالدم في تاوريرت

GMT 09:22 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

إيقاف وسيط في تجارة الممنوعات بالقصر الكبير

GMT 04:03 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

صدور كتاب تربوي جديد للدكتور جميل حمداوي

GMT 13:41 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ليلى أحمد زاهر تهنئ هبة مجدي بخطوبتها
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca