ليس لكم إلا الصبر أو مغادرة البلد

الدار البيضاء اليوم  -

ليس لكم إلا الصبر أو مغادرة البلد

بقلم : توفيق بو عشرين

عوض أن تعطي الحكومة والبرلمان المثال في احترام الدستور، والامتثال لأحكام القضاء، والالتزام بقواعد العدالة والإنصاف، نجد سلطتي التنفيذ والتشريع تتواطآن معا على خرق الدستور والقانون، وتشرعان معا لاحتقار الأحكام القضائية الحائزة قوة الشيء المقضي به، وهكذا تعطيان صورة سيئة عن أخلاق الدولة في الداخل والخارج. إليكم آخر مثال من مشروع القانون المالي الذي صادق عليه مجلس النواب الأسبوع الماضي.

نصت المادة الثامنة مكرر من مشروع القانون المالي لهذه السنة على: «في حال صدر حكم قضائي اكتسب قوة الشيء المقضي به، يدين الدولة والجماعات الترابية بأداء مبلغ معين، يتعين الأمر بصرفه داخل أجل شهرين من تاريخ تبليغ المقرر القضائي المذكور آنفا، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تخضع أموال وممتلكات الدولة للحجز لهذه الغاية».

وما العمل إذا رفضت الدولة أو الجماعات الترابية أداء ما بذمتها خلال شهرين لمواطن نزعت الدولة أرضه، فاشتكاها إلى القضاء الذي حكم له بتعويض مستحق؟ لا شيء، المادة تقول للدائنين اصبروا حتى تتوفر الدولة أو الجماعات المحلية على اعتمادات لأداء ما بذمتها لكم في حدود الاعتمادات المتوفرة لديها، وإلا فإنكم لن تستطيعوا إجبارها على تنفيذ الحكم بالحجز أو بغيره.

ماذا تعني هذه المادة التي أحياها فريق العدالة والتنمية، بعدما تخلت عنها حكومة بنكيران في القانون المالي لسنة 2015، ولم تستطع تمريرها بعدما أثارت ضجة إعلامية وحقوقية كبيرة؟

لنفترض أن أرملة مات زوجها وترك لها هكتارا من الأرض لتعيش منه وأبناؤها اليتامى، فجاءت الدولة، أو مجلس المدينة، ونزع منها ملكية الأرض للمصلحة العامة (لبناء طريق عمومية مثلا)، وأعطتها الدولة تعويضا قدره 10 دراهم للمتر المربع فقط. السيدة رفضت هذا السعر الزهيد لأرضها واعتبرته مجحفا، فذهبت إلى القضاء الإداري لتطالب بحقوقها كاملة، فحكمت لها المحكمة الابتدائية بتعويض عن الأرض المنزوعة منها قيمته 100 درهم للمتر المربع. الدولة نازعت في هذا الحكم الذي صدر بعد سنة ونصف من النازلة (هذا هو معدل النطق بالحكم في المحكمة الابتدائية، إذا لم يكن أكثر)، فذهب المتنازعان (الأرملة والدولة المغربية) إلى محكمة الاستئناف، وبعد سنة ونصف أخرى، أيدت محكمة الاستئناف الحكم الابتدائي فصار نهائيا. الدولة لا تطبق الأحكام النهائية، كما هي عادتها، بل تتوجه إلى محكمة النقض للطعن في الحكم. بعد سنتين أخريين، رفضت محكمة النقض الطعن المقدم من قبل الدولة على الحكم الاستئنافي. هنا يصير الحكم لصالح الأرملة حائزا قوة الشيء المقضي به، وملزما للدولة، ومطلوبا منها تطبيقه فورا، وإلا عرضت نفسها لعقوبات أخرى.

الأرملة المسكينة، وبعد خمس أو ست سنوات من التقاضي أمام المحاكم، حصلت على حكم حائز قوة الشيء المقضي به، وذهبت إلى رئيس الحكومة، الذي هو الممثل القانوني للدولة، لتنفيذ حكم بتعويض الأرض المنزوعة بقيمة مليون درهم، وبعدما ظلت طيلة هذه المدة بدون مورد رزق، غارقة في «الكرديات» لتعيل أسرتها وتصرف على المحامي الذي يدافع عنها، ماذا سيقع مع القانون المالي الجديد؟ ستقول الدولة لهذه السيدة، بعد أن تستغرق أشهرا عديدة في مسطرة التبليغ والتنفيذ: ‘‘ليس لدي هذه السنة اعتمادات كافية لتنفيذ الأحكام’’، وإذا حاول محامي السيدة المسكينة الحجز على حسابات الدولة لإجبارها على تنفيذ الحكم، كما يحدث مع الأفراد، ستمنعه المادة 8 مكرر من القانون المالي من فعل ذلك.

بعدما اقتنع قضاة المحاكم الإدارية بأن لا سبيل لدفع الدولة إلى احترام أحكام القضاء إلا بالحجز على حساباتها ومنقولاتها وعقاراتها، وبدأت الإدارة تخضع لأحكام القضاء، جاءت المادة الثامنة مكرر لتعطي الجماعات الترابية والدولة حصانة قضائية ضد أحكام ملزمة، فقط لأن بعض عمداء المدن، التابعين للبيجيدي، عجزوا عن تدبير مشاكل مجالسهم مع المواطنين، فاستغلوا صفتهم البرلمانية من أجل التشريع للإفلات من تنفيذ أحكام قضائية، فخرقوا الدستور الذي يقول فصله 126: «يجب على الجميع احترام الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء»، وخرقوا القانون التنظيمي للمالية الذي تنص مادته 6 على أن «قانون المالية لا يمكن أن يتضمن إلا أحكاماً تتعلق بموارد الدولة ونفقاتها، وتحسين شروط تحصيلها، ومراقبة المالية العمومية». وهو ما سبق أن رفضه المجلس الدستوري بالنسبة إلى قانون المالية 2008 بخصوص نازلة الرادارات. كما تجاهل مقترح البيجيدي توصية ملكية جاءت في خطاب محمد السادس الأخير في افتتاح الدورة البرلمانية، جاء فيها: «المواطن يشتكي، بكثرة، طول وتعقيد المساطر القضائية، وعدم تنفيذ الأحكام، خاصة في مواجهة الإدارة، فمن غير المفهوم أن تسلب الإدارة المواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها، وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي؟».

كانت الإدارة، قبل إقرار مشروع القانون المالي هذا، تتملص من تنفيذ الأحكام القضائية وهي محرجة. الآن صارت تعطل الأحكام باسم القانون… وطبعا وزارة المالية وافقت على هذا التعديل/الفضيحة، الذي أدخلته كتيبة البيجيدي على القانون المالي، وفرح بوسعيد به لأنه عجز عن تمريره مع بنكيران، وها هو يمرره باسم البيجيدي في عهد العثماني.

إذا كان البعض يدفع المال لبعض القضاة من أجل الحصول على تعويضات خيالية ضد الدولة والجماعات الترابية، لأن الأخيرة لا تدفع رشاوى، وليس في بنود قانونها المالي ميزانية لرشوة القضاة، فهذا مشكل لا يحل بإضفاء الحصانة القضائية على الدولة والجماعات المحلية. هذه ضريبة إفشال مشاريع إصلاح القضاء التي لم يفلح أي منها في الحد من سلطة المال والتعليمات على ضمير القاضي.

إن هذه المادة، إذا مرت في مجلس المستشارين، ولم يطعن أحد فيها أمام المحكمة الدستورية، فهذا معناه أن حق الملكية لم يعد محفوظا في المغرب، وأن الدولة لا تضمن حقوق أحد وإن صدرت أحكام قضائية لصالحه، وأن الذي يختار الاستثمار في المغرب، من الأجانب أو من أبناء البلد، عليهم أن يبحثوا عن شركة تأمين عالية المخاطر تؤمن استثماراتهم، لأن الدولة تقول لك: إذا صدر حكم لصالحك ضدي، بعد سنوات طويلة من التقاضي، فأنا لست مجبرة على الأداء، إلا في حدود ما أستطيع، ولا أحد يملك القدرة على الحجز على أموالي وأملاكي، ولا أحد يستطيع أن ينازع في تقديري لما أستطيعه ولما لا أستطيعه، ولذا، ليس لديكم من حل إلا الصبر أو مغادرة البلاد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ليس لكم إلا الصبر أو مغادرة البلد ليس لكم إلا الصبر أو مغادرة البلد



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج

GMT 16:52 2015 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

كمبوديا تستخدم الجرذان في البحث عن الألغام

GMT 04:44 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميم مجمع مباني "سيوون سانغا" في عاصمة كوريا الجنوبية

GMT 06:28 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

خبير إتيكيت يقدم نصائحه لرحله ممتعة إلى عالم ديزني

GMT 12:22 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل 7 على الأقل في قصف جوي ومدفعي على حي الفردوس في حلب

GMT 04:48 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير الوليد بن طلال يؤكد بيع أسهمه في "فوكس 21"

GMT 22:13 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

منتخب غانا يهزم نظيره المصري في بطولة الهوكي للسيدات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca