ماكرون عندنا

الدار البيضاء اليوم  -

ماكرون عندنا

بقلم - توفيق بو عشرين

اختار الرئيس الفرنسي الجديد إمانويل ماكرون توقيتا سيئا لزيارة المغرب الأسبوع المقبل، ذلك أن المملكة ليست في مزاج صاف، وهي تعيش على وقع احتجاجات اجتماعية وسياسية دامت سبعة أشهر، وبسبب طولها وتعقدها وغياب إدارة حكيمة لها، أضحت تزرع الخوف في قلوب المواطنين على استقرار البلد وعلى مستقبل (استثنائها)، وأصبح القريب والبعيد يردد سؤالا واحدا: إلى أين يتجه المغرب؟

ومع ذلك، لا بد أن نرحب بالرئيس الشاب ماكرون، الذي اختار المغرب في أول زيارة له إلى المنطقة المغاربية. ولا بد من دعوته إلى إلقاء محاضرة في المغرب عن حركته “إلى الأمام”، وكيف استقطبت جيلا جديدا للسياسة في فرنسا، وعن برنامجه، وكيف أقنع 62% من الناخبين الفرنسيين للتصويت له، وهو لم يبلغ بعد الأربعين سنة، وعن الكيفية التي أسقط بها ديناصورين سياسيين هما الحزب اليميني “الحركة من أجل الجمهورية” والحزب “اليساري الاشتراكي”، وكيف طردهما لأول مرة من قصر الإيليزيه منذ وضع دوغول أسس الجمهورية الفرنسية الخامسة؟

لا بد أن يقدم ماكرون حصيلة تجربة متميزة في بلادنا، وكيف قضى على الحيتان الكبيرة في الحقل السياسي الفرنسي؟ وكيف نادى بتخليق الحياة العامة؟ وكيف استقطب المجتمع المدني إلى دعم مشروعه السياسي؟ وكيف امتلك الجرأة ليحاكم التاريخ الاستعماري لبلاده؟ وكيف نجح في الانتصار على شعبوية اليمين وتطرف اليسار؟ وكيف وضع حلولا جديدة لمشاكل قديمة في بلاده؟ وكيف خاض حملة انتخابية غير تقليدية بدون حزب ولا آلة انتخابية ولا مال كثير؟ كل هذه الدروس، ربما، تكون مناسبة لبلاد تعيش في جلباب الماضي، فهي غير قادرة على الرجوع إلى الخلف، ولا هي قارة على التقدم إلى الأمام، عالقة في وسط الطريق، تدبر انتقالا لا ينتهي، وتقر إصلاحا في الصباح وتلتف عليه في المساء، وكل همها أن تستهلك الوقت، وتبيع الوهم والآمال الوردية التي لم يعد أحد يصدقها ..

سيجد ماكرون صعوبة كبيرة في فهم طبيعة الحياة السياسية في بلادنا، فهي حياة معقدة جدا، وفيها خليط من الديمقراطية والسلطوية، من الأصالة والمعاصرة، من التقليد والتحديث، من النخب القديمة المتمسكة بالسلطة والنخب الجديدة المبعدة من القرار… بلاد متدينة وعلمانية في الآن نفسه، وفيها أحزاب حقيقية وأخرى مفبركة، فيها خطاب حديث وممارسات تقليدانية، فيها مؤسسات لكن القرار في يد واحدة، فيها انتخابات لكنها لا تفرز من يحكم ومن يعارض، فيها دستور مكتوب وآخر غير مكتوب، فيها تلفزيون حديث لكنه لا ينقل الحقائق إلى الناس، وفيها شعب ثلثاه شباب ونخب جلها شيوخ، لكن مع كل هذه التناقضات في المملكة الشريفة ماكرون سيجد من الفرنسيين القدامى في إدارة الإيليزيه من يلخص له كل هذه المفارقات المغربية في جمل صغيرة يعرفها (الكيدورسه) منذ كانت فرنسا تحكم المغرب زمن الاستعمار ومنذ صارت شريكا في القرار زمن الاستقلال إلى اليوم، سيقولون له مثلا إن كل شيء يتغير في المغرب من أجل ألا يتغير أي شيء، وإن المغاربة يتذمرون من الواقع، لكنهم يخافون من التغيير، وسيقولون له إن أكبر فاعل في السياسة هو المطر، وإن السماء من يصنع الحدث في المغرب، وسيقولون له في هذا البلد الغني والفقير يحلمان معا بالهجرة إلى الخارج، الأول خوفا من المخزن، والثاني خوفا من الفقر، وسيقولون له إن المخزن يتعامل مع الشعب كتعامله مع السبع لا يرخي له الحبل كله ولا يشده كله، وسيقولون له إن البرجوازية في المغرب تنتقد الدولة في الصالونات وتتملق لها أمام الكاميرات، وسيقولون له إن السلطة مازالت تحكم في القرن 21 بعمامة الدين، وإن القضاء في المغرب (قضاء وقدر)، وإن الاحزاب ماتت ولم تدفن بعد وإن الريع هو سيد الاقتصاد في المملكة التي تحرسها العناية الإلهية…

عندما سينهي ماكرون زيارته إلى بلادنا سيفهم دروسا لم يتعلمها في أي مدرسة أو جامعة أو حملة انتخابية، لكنه لن يخفي إعجابه بقدرة هذا الشعب على العيش مع هذا الكم الهائل من التناقضات، تحت سقف واحد وهو يردد (فهم تسطا).

مرة سأل الصحافي البريطاني الراحل استيفن هيوز، الذي اشتغل في المغرب لفائدة وكالة رويترز منذ الخمسينات، الحسن الثاني في ندوة صحافية، فرد عليه الملك الذي كان مفتونا بالظهور أمام الصحافة، يا سيد هيوز أنت تعرف أكثر من أي شخص آخر أحوال المملكة، فماذا تريد أن تعرف أكثر؟ فرد عليه هيوز: نعم يا صاحب الجلالة في هذه البلاد كلما عرفت أكثر، فهمت أقل.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ماكرون عندنا ماكرون عندنا



GMT 15:52 2021 الثلاثاء ,16 آذار/ مارس

بايدن في البيت الأبيض

GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 11:56 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 13:15 2020 السبت ,16 أيار / مايو

بريشة : هارون

GMT 22:06 2018 الثلاثاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

كيفية التعامل مع الضرب والعض عند الطفل؟

GMT 00:54 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم"يكشف تفاصيل أزمة محمد رشاد ومي حلمي كاملة

GMT 20:23 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مسرحية "ولاد البلد" تعرض في جامعة بني سويف

GMT 22:59 2017 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

إتيكيت تزيين الطاولة للمزيد لتلبية رغبات ضيوفك

GMT 16:49 2017 الثلاثاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

العراق يستلم من إيطاليا تمثال "الثور المجنح" بعد ترميمه رسميًا

GMT 08:07 2017 الأربعاء ,16 آب / أغسطس

شبكات التواصل بين السلبي والإيجابي

GMT 02:07 2017 الأربعاء ,10 أيار / مايو

كواليس عودة " عالم سمسم" على الشاشة في رمضان

GMT 06:59 2016 السبت ,24 كانون الأول / ديسمبر

الفنانة ندا موسى تكشف عن كواليس "ياباني أصلي"

GMT 03:39 2016 الإثنين ,17 تشرين الأول / أكتوبر

مصور بريطاني يكشف مأساة النسور بكاميرته

GMT 20:47 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

اختيار إدريسي أفضل حارس في الدوري الفرنسي لكرة اليد
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca