الحسن الثاني لو تذكرونه

الدار البيضاء اليوم  -

الحسن الثاني لو تذكرونه

بقلم - توفيق بو عشرين

في مثل هذا الأسبوع قبل 18 سنة، أعلن بلاغ للديوان الملكي أن الملك، الذي حكم المغرب لمدة 38 سنة، انتقل إلى جوار ربه. لم يصدق جل المغاربة الخبر حتى رأوا في المساء صحافي البلاط، مصطفى العلوي، ينعى ملكهم والدمع ينزل من عينيه، ثم تأكدوا أن الملك ما عاد بينهم وهم يَرَوْن العائلة الملكية والنخبة السياسية والعسكرية تبايع ولي عهده وابنه البكر ملكا على عرش المغرب في القصر الملكي بالرباط.

كان المغاربة يعرفون أن ملكهم مريض، وأن الصورة التي ظهر بها في باريس إلى جانب جاك شيراك، في احتفالات العيد الوطني الفرنسي يوم 14 يوليوز 1999، تقول إنه رجل على حافة الغروب، لكن، مع ذلك، كانت «صدمة الشعب» كبيرة، لأن ثلاثة أرباع الشعب حينها لم يعرفوا ملكا سواه. أحس الناس البسطاء بما يشبه اليتم والخوف من المستقبل… كانوا يخافونه ويتهيبونه، ولم يتصوروا أنهم سيسمعون خبر موته في حياتهم، لذلك خرجوا بمئات الآلاف إلى الشوارع لوداعه، ولو تركت السلطة لهم الباب مشرعا لخرجوا بالملايين في جنازة صاحب أطول فترة حكم بعد جده المولى إسماعيل، الذي حكم الإيالة الشريفة لمدة نصف قرن بالحديد والنار وعبيد البخاري.

اليوم، مع فارق 18 سنة، يمكن أن نرى «فيلم» الحسن الثاني من مسافة أطول وبهدوء أكبر وموضوعية أكثر… إنه ملك طموح وصل إلى العرش سنة 1961 بعد وفاة والده المفاجئة. لم يكن غريبا عن السلطة، ولا وافدا جديدا على الحكم. تعلم منه الكثير في حياة والده، كما راكم صداقات وعداوات كثيرة مع الوطنيين قبل أن يستلم عصا الحكم. كان ذكيا وعنيدا في الوقت نفسه.. كان تقليديا لكنه يحب أن يعيش زمنا عصريا. يعرف التاريخ جيدا، لكن رؤيته عن المستقبل لم تكن واضحة… باختصار، كان ابن البلد وثقافة البلد بكل تناقضاتها.

بدأ مساره عنيفا وجامحا مع المعارضة، حتى الهامشية منها، حتى إن كثيرين لم يتوقعوا له أن يستمر في حكم المغرب سوى بضع سنين، لكنه كذب كل التوقعات رغم أنه تعرض لمحاولتين انقلابيتين كادتا توديان بحياته. والمفارقة أن الخطر لم يأت من خصومه اليساريين أو الوطنيين، بل جاء من أقرب خادم له.. الجنرال الدموي محمد أوفقير، الذي هدد بقتل علال الفاسي في مجلس للوزراء لأنه كان يعارض بعض قرارات الحسن الثاني، وكان يبالغ في إظهار الولاء والإخلاص للجالس على العرش، وفي النهاية ارتكب مجزرة في انقلاب الصخيرات، وقصف الرباط بالطائرات في 1972، بعد فشل ضباط سلاح الجو في إسقاط طائرة الملك في الجو وهي عائدة من باريس. كان هذا درسا كبيرا ومؤلما في الحكم، حتى وإن تظاهر الحسن الثاني بالقوة والجلد، وخرج أمام الصحافة يعلن فشل الانقلاب.

بعدها استمر الحسن الثاني في الصعود والنزول. قبضته الحديدية لم تترك له حلفاء حزبيين كبارا. حتى علال الفاسي، الذي وافقه على دستور ممنوح سنة 1962 لا يترك هامشا للمشاركة في الحكم، سرعان ما ابتعد عن القصر، ولم يرجعه إلى البلاط سوى الخوف على العرش وعلى الصحراء، فاضطر الحسن الثاني إلى اللعب مع «الصغار»، وفي مقدمتهم إدريس البصري وأحزاب «الكارطون»، التي قبضت ثمن مشاركتها في مسرحية هزلية عنوانها: «الديمقراطية الحسنية». المسيرة الخضراء أنقذت الملك الراحل من مخاطر تآكل شرعيته، لكنه استثمر ملف الصحراء في مشاريع قصيرة المدى لدعم سلطته، وليس لبناء مغرب جديد. فرط في التعليم لأنه كان يراه لا يفرخ إلا اليساريين أو الإسلاميين. نسي الاقتصاد وبناء البلاد لأنه كان مأخوذا بالسياسة الدولية التي كان بارعا فيها. ركز أسس حكم تقليدي حول إمارة المؤمنين، ونسي أنه ملك يعيش في القرن العشرين. بنى جيشا محترفا غير قبلي ولا إيديولوجي، وواصل بناء الإدارة التي وضع أسسها الراحل اليوطي «باني المغرب الحديث». اهتم بالماء في الوقت الذي كان العرب يهتمون بالنفط، وجنب بلاده حربا مفتوحة مع الجزائر بعد حرب الرمال القصيرة. اختار اقتصاد السوق لمملكة بلا موارد كبيرة، ولم يقطع شعرة معاوية مع خصومه، وكان شعاره من شعار ابن أبي سفيان: «والله لو بقيت لي شعرة مع أعدائي ما قطعتها»… لم يمت إلا بعدما قلم أظافر المعارضة الاتحادية، ودفع عبد الرحمان اليوسفي إلى القسم على القرآن، وجعل من الاتحاديين قنطرة مر عليها سيدي محمد بسهولة نحو خلافة والده. حتى الإسلاميين لم يتركهم جميعا خارج حديقته، حيث وافق على خطة الدكتور الخطيب لإدماجهم بعدما أخذ منهم موثقا بالولاء للعرش ونبذ العنف، والاشتغال تحت سقف الشرعية مهما نزل… ولو امتد بالحسن الثاني العمر لفعل الشيء نفسه مع جماعة عبد السلام ياسين، لكن للقدر أحكاما فوق أحكام البشر، مهما كانت سلطتهم فوق الأرض.

لو بقي على قيد الحياة، هل كانت مملكته ستكون أفضل مما هي عليه الآن؟ سؤال تصعب الإجابة عنه، لأن التاريخ مبني على ما كان وليس على ما قد يكون. لكن هذا لا يمنع من القول إن الحسن الثاني قام بسلسلة مراجعات سياسية مهمة قبل وفاته. فتح كتاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وطهر بيت الحكم من أوساخه. دعا واحدا من أعدائه إلى القصر وسلمه الوزارة الأولى، وكان ينوي صرف إدريس البصري من الخدمة. تسامح مع الصحافة، وتركها تعبر عن مغرب ابنه لا عن مغربه هو. كان يعرف أن مستقبل المغرب في الحكم الديمقراطي لا في الجلباب السلطوي، لكن، بعدما تحقق له الإجماع على أسلوب الحكم، بدأ يظهر زهدا في السلطة بعدما شبع منها، وبدا له أن السلطة مثل ماء البحر كلما شربت منه أكثر ازددت عطشا. حتى الصحراويين الذين حملوا السلاح في وجهه، وانحازوا إلى أعدائه في الجارة الشرقية، قال لهم: «إن الوطن غفور رحيم»، ولم يطلب منهم أكثر من علم وطابع بريدي فوق رمال الصحراء، والباقي لهم.

بلا شك ابنه كان أكثر اهتماما بالاقتصاد والبنيات التحتية وأعطاب المجتمع، لكن الوالد كان يعرف أن مشاكل المغرب سياسية قبل كل شيء، ولو بدأ محمد السادس من حيث انتهى والده سياسيا، لكنا قطعنا مسافة أكبر في مضمار العدو نحو الإصلاحات الكبرى التي تضع البلاد في مصاف الدول الديمقراطية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحسن الثاني لو تذكرونه الحسن الثاني لو تذكرونه



GMT 15:52 2021 الثلاثاء ,16 آذار/ مارس

بايدن في البيت الأبيض

GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 19:53 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 08:23 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجدي الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 18:00 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تشعر بالانسجام مع نفسك ومع محيطك المهني

GMT 15:27 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

توقيف فتاة كانت بصحبة شاب على متن سيارة في أغادير

GMT 03:00 2017 الإثنين ,02 كانون الثاني / يناير

أنطوان واتو يجسّد قيم السعادة في لوحاته الفنيّة

GMT 18:55 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تمرّ بيوم من الأحداث المهمة التي تضطرك إلى الصبر

GMT 20:15 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

افتتاح المهرجان الدولي لمسرح الطفل في رومانيا

GMT 12:01 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

وجهات منازل رائعة استوحي منها ما يناسبك

GMT 09:29 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

أفكار مختلفة لترتيب حقيبة سفركِ لشهر العسل

GMT 08:44 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منظمة "ميس أميركا" ترفع الحد الأقصى لسنّ المتسابقات

GMT 09:08 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

أفضل الطرق لتنسيق تنورة الميدي مع ملابسك في الشتاء

GMT 14:11 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

جمعية خيرية تنظيم حملة للتبرع بالدم في تاوريرت

GMT 09:22 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

إيقاف وسيط في تجارة الممنوعات بالقصر الكبير

GMT 04:03 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

صدور كتاب تربوي جديد للدكتور جميل حمداوي

GMT 13:41 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ليلى أحمد زاهر تهنئ هبة مجدي بخطوبتها
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca