سلطة تعزل الحاكم

الدار البيضاء اليوم  -

سلطة تعزل الحاكم

بقلم ـ توفيق بو عشرين

يعيش جل الحكام في وهم أنهم يعرفون كل شيء عن شعوبهم، وعن أحوال بلادهم، وهم أبعد ما يكونون عن هذه الحقيقة. إن السلطة تعزل الحاكم، وتدخله إلى عالم خاص، فيه كل شيء، غير نبض الحياة الحقيقي، وحتى عندما تتسرب بعض الحقائق السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية إلى أذني الحاكم، فإن هناك في محيط الحاكم من يعملون ليل نهار على حجب الحقائق، وتأويل الوقائع، والتلاعب بالأرقام، حتى لا يتصل رأس الدولة بنبض الشارع. هناك مثل فرنسي يقول: «إذا كانت الأرقام لا تكذب، فأحيانا تتحول الأكاذيب إلى أرقام».

السلطة تقيم حجابا بينها وبين الواقع من أجل أن تسمو عنه، ومن أجل أن تضع مسافة بينها وبين من تحكمهم، ظنا منها أن الهيبة توجد في البعد، والقوة كامنة في الحجب، والدهاء يختفي خلف الغموض… جل الملوك والرؤساء والأمراء الذين واجهوا ثورات أو انقلابات أو انتفاضات، قديما وحديثا، راحوا ضحية الجهل بالواقع، والجهل بالمياه التي تجري تحت جسور حكمهم، دون أن ينتبهوا إليها، ودون أن يفطنوا إلى ما تتركه من تحولات عميقة، ودائما ما يكون أول سؤال يخرج من أفواه الملوك والرؤساء والأمراء هو ذلك السؤال العجيب: «ماذا يحدث؟». قالها لويس السادس عشر في فرنسا عندما أخبروه بتمرد سجناء البستيل، وخروج الفرنسيين للتظاهر في الشوارع حاملين بنادق البارود. وحتى عندما أخبره وزيره الأول بما يحدث، حاول لويس السادس عشر التقليل من الأمر فقال: «إنه تمرد»، فرد عليه الوزير: «لا يا صاحب الجلالة، إنها ثورة». زوجته أنطوانيت كانت أسوأ منه، وأكثر بعدا عن حقيقة ما يجري في قاع المجتمع، عندما سألت عن مطالب الثوار الفرنسيين، وأخبروها بأن الناس يبحثون عن الخبز فلا يجدونه، قالت لهم: «ولماذا لا يأكلون البسكويت إذا لم يجدوا الخبز؟»…

السؤال نفسه طرحه القيصر الروسي الذي تحل هذا الشهر ذكرى الثورة على ملكه. الأمر نفسه حدث مع تشاوشيسكو وبنعلي ومبارك وعلي عبد الله صالح، أما القذافي فدخل التاريخ بصراخه في وجه شعبه: «من أنتم؟». حكم العقيد المخبول شعبه أربعين سنة، وفِي النهاية لم يتعرف عليه عندما خرج يطلب الحرية والكرامة وشيئا من المنطق في نظام بلا منطق. ولأنه القذافي، فإنه لم ينتظر من أحد أن يجيبه عن سؤال «من أنتم؟»، بل وجد الجواب في الحين.. «إنهم جرذان».

قبل سقوطه بأشهر عن عرش إيران، استدعى الشاه، محمد رضى بهلوي، مثقفا جامعيا من خارج البلاط، اسمه حسن نراغي، وسأله: «ماذا يجري يا نراغي في إيران؟ وكيف أن أحدا من المسؤولين حولي لم ينبهني إلى هذا السيل المتدفق من الغضب والإحباط والرفض لي ولنظامي في الشارع؟».

نراغي يجيب: «يا مولاي، الأشخاص الذين أحطت نظامك بهم لم تكن لديهم الوسائل ولا الثقافة ولا المعرفة لسماع صرخة الحقيقة في الشارع، وهم من منعوا عنك الحقيقة».

الشاه يعقب: «لكننا اخترنا أطر الحكم من بين أفضل المتخصصين في الجامعات الأوروبية والأمريكية، كيف لم يتمكن هؤلاء المهندسون والدكاترة والمتخرجون من المعاهد الغربية من إخباري بأمر هذا الأزمة التي نضجت على نار هادئة؟».

نراغي يجيب: «هذا راجع، يا مولاي، إلى طبيعة نظامك الهرمي، حيث لا يشعر أحد بأنه مسؤول على الصعيد السياسي، لأن كل القرارات المهمة تصدر عنك وحدك، وبما أنك انفردت بتحديد الأهداف، فإن النخبة اعتبرت أن دورها ينحصر في تزويدك بالمعلومات التي تتفق مع نهجك السياسي. هذه النخبة استعملت ذكاءها وعلمها لتتبعك، وبعبارة أخرى لتمنع عنك الرؤية. أنت وضعت التقنوقراط في كل مكان. التقنوقراط آلة لا تجيب إلا عن الأسئلة التي تطرح عليها، وهي لا تطرح الأسئلة من جهتها؟».

في الأنظمة الديمقراطية جرى حل إشكالية انعزال السلطة عن المجتمع، وذلك عن طريق الفصل بين السلط، وجعل كل سلطة تراقب الأخرى، وفتح المجال لحرية التعبير والنشر والإعلام، وضمان حقوق المعارضة، وإجراء استطلاعات رأي دورية، والسماح للمجتمع بالتظاهر والتعبير، وإيصال صوته إلى من يحكم عله يرى الحقيقة من وراء حجب السلطة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سلطة تعزل الحاكم سلطة تعزل الحاكم



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 19:15 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 16:52 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الإصابة تحرم الأهلي من رامي ربيعة في مباراة الإسماعيلي

GMT 23:44 2017 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

شمال الأطلنطي يحسم بطولة كأس الجامعات القطرية للرجال

GMT 15:27 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

التصميم المميز للزجاجة والروح الأنثوي سر الفخامة

GMT 08:49 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

أليساندرو سارتوري يسرق الأنظار إلى "زينيا" بابتكاراته

GMT 12:55 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

جزيرة منمبا في زنجبار تتمتع بمناظر طبيعية نادرة ورومانسية

GMT 04:30 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الإبلاغ عن العنف الجنسي يعصف بحياة السيدات في الهند

GMT 02:35 2017 الجمعة ,05 أيار / مايو

سيارة فيراري "275 غب" 1966 معروضة للبيع

GMT 05:29 2016 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الصين تفتتح أفخم فندق سبع نجوم بتكلفة 515 مليون دولار

GMT 02:01 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

5 خطوات مميّزة للحصول على درجة علمية عبر الإنترنت
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca