بقلم : توفيق بو عشرين
الذين هندسوا ميلاد حكومة هجينة وضعيفة في المغرب لا ينظرون بعيدا، أو قل إنهم مشغولون بإعادة ميزان القوى إلى سابق عهده قبل 2011، حتى تبقى الكفة راجحة لصالح السلطة على حساب المجتمع. هؤلاء ليسوا مشغولين بإعادة التوازن إلى بنية الدولة والمجتمع، بل هم مهووسون بإقفال قوس الربيع، واستخراج شهادة وفاة للتناوب الثاني، الذي فشل كما فشل التناوب الأول.
حزام به ثلاث قنابل يحيط بخصر الدولة المغربية يهدد بأخطار حقيقية، والمؤسف أن الوعي ليس عاما بهذه الأخطار، وإن وجد هذا الوعي لدى فئات من صناع القرار، فهو وعي ناقص بحقيقة هذه المخاطر، فضلا عن عجز عقل الدولة عن إيجاد طريقة لتفكيك هذه الألغام، وإبعاد هذه المخاطر عن سلامة البلاد.
الخطر الأول قادم من نزاع الصحراء الذي يزداد تعقيدا يوما بعد آخر، بعد فشل الحل القانوني (الاستفتاء)، وفشل الحل السياسي (الحكم الذاتي)، وفشل الحل الدبلوماسي (التطبيع مع الجزائر)، لم يبق على الطاولة إلا حلان؛ الأول هو الحل العسكري الذي نرى بروفة صغيرة منه في الگرگرات، والثاني هو تدخل القوى الكبرى لفرض حل بالقوة على كل الأطراف، كما كان يدعو إلى ذلك جيمس بيكر، قبل أن يصرفه الرئيس الأمريكي السابق، بوش الصغير، من الخدمة الأممية، تحت إلحاح المغرب.
ينسى الكثيرون أن المغرب في حالة حرب مستمرة ضد الجزائر وجبهة البوليساريو، وأن الهدوء الذي يعم المنطقة ما هو إلا هدوء مؤقت، وأن النيران متوقفة ليس بسبب نهاية الحرب، بل فقط بسبب وقف إطلاق النار، الذي تهدد البوليساريو بالرجوع إليه بين ساعة وأخرى… هذا جرح لا يمكن أن يظل مفتوحا إلى الأبد، وإذا بقي كذلك، فسيظل مصدر خطر دائم على الصحة.
الخطر الثاني هو قنبلة البطالة التي تزداد كل سنة تفاقما، وإذا كانت الأرقام تلخص آلاف الجمل، فإنها تقول اليوم إن أكثر من 650 ألف مغربية ومغربي يدقون باب الشغل كل سنة، في حين لا يفتح هذا الباب سوى لـ250 ألفا في كل القطاعات، العامة والخاصة، المهيكلة وغير المهيكلة. هذا معناه أن أكثر من 400 ألف مواطن يبقون في قاعة انتظار كبيرة كل سنة في انتظار الذي يأتي أو لا يأتي، وهكذا، كل سنة، يلتحق فوج من 400 ألف بآخرين ليشكلوا ملايين العاطلين.
من أين يأتي طلاب الشغل، البالغ عددهم أكثر من 650 ألفا كل سنة؟ 200 ألف يأتون من الهدر المدرسي، ولا يتوفرون على الحد الأدنى من المعارف، و178 ألفا يأتون من معاهد التكوين المهني، و240 ألفا يأتون من الجامعات، بدبلومات وبدون دبلومات، والباقون مواطنون من مختلف الأعمار، يهاجرون من البوادي إلى المدن طلبا لفرص أفضل للعيش. من 650 ألفا لا يحصل على فرصة شغل، كل سنة، سوى الثلث، ويبقى الثلثان في مقاعد البطالة، حتى إن 20% منهم لم يعودوا يبحثون عن الشغل، وفقدوا الأمل، وبدؤوا يغذون قاعدة عريضة من احتياطيات اليأس الذي قد يقود بعضهم إلى التطرف والإجرام بكل ألوانهما.
القطاع الخاص في المغرب يوفر 85% من مناصب الشغل، فيما يوفر القطاع العام الباقي، لكن المشكل كله يكمن في الأزمة التي تضرب نظام التعليم والتكوين، وفي النسيج المقاولاتي الضعيف. الأول لا يعطي الكفاءات والمهارات لطلاب العمل للعثور على وظيفة، والثاني لا يوفر ما يكفي من مناصب الشغل بسبب أعطابه الكثيرة، وفي مقدمتها ضعف الابتكار والتجديد والعصرنة. (في أمريكا، مثلا، كل سنة تولد مليونا مقاولة جديدة، وفي فرنسا، ورغم الأزمة الاقتصادية، تخلق حوالي 500 ألف مقاولة كل سنة، أما في المغرب فلا تخلق سوى 30 ألف مقاولة جديدة كل سنة. ورغم استحضار كل الفروق الموجودة بين المغرب وأمريكا وفرنسا، يظل العجز ظاهرا عن ابتكار مجالات جديدة للنشاط الاقتصادي ببلادنا تساعد على إيجاد الشغل، وتوسيع كعكة القيمة المضافة في اقتصاد البلاد).
أما ثالث خطر يهدد البلاد فهو هشاشة المؤسسات الحزبية، وفقرها الكبير في تأطير المجتمع، وفرز نخب جديدة، والتداول على السلطة، وبلورة مشاريع مجتمعية واقتصادية تواكب حاجيات البلاد ومشاكلها. الاتحاد الاشتراكي توفي إلى رحمة الله منذ سنوات، وجاء إدريس لشكر فاستخرج له شهادة وفاة، وشيد له قبرا للترحم عليه. وحزب الاستقلال دخل إلى غرفة الإنعاش، وحتى إن خرج حيا، فإنه لن يخرج بدون إعاقة ستصاحبه لعقود مقبلة، أما حزب العدالة والتنمية، الحزب الأول في المغرب، فإنه سقط في فخ السلطة، والآن نسمع عويل الأجزاء الحية في جسمه، وآثار الضرب والجرح على وجهه، وفي عيون الناس الذين لم يقبلوا إهانته بهذا الشكل، وقضم انتصاره في صناديق الاقتراع عن طريق تعويمه في تحالف بلا لون ولا طعم ولا رؤية غير زرع بذور الفرقة في صفوفه.
الأحزاب الأخرى إما ضعيفة لا تأثير لها في القرار، وإما مصطنعة لها وجود في المؤسسات دون جذور في المجتمع، وهي لا تلعب إلا أدوارا هامشية في ديمقراطية الواجهة، لكن، عند الامتحان، فإنها ستهرب بجلدها، كما فعلت طيلة سنة من حراك الشارع قبل خمس سنوات.
الأحزاب هي حزام السلامة الذي يقي النظام مخاطر حوادث السير، ويخفف من الاصطدام بالشارع في زمن لم يعد يحكم فيه البشر بالحديد والنار. القصف المتواصل على بيوت الأحزاب الوطنية والديمقراطية، وسلب إرادتها، والعبث باستقلالها، وزرع ألغام الانشقاقات في رحمها، كل ذلك لا يخدم المصالح العليا للدولة، ولا مستقبل الاستقرار بها. الجميع في سفينة واحدة، إن نجت، فسينجو الجميع، وإلا فإن خبر النعي سيشمل الجميع.
المصدر : اليوم 24