الدولة بريئة

الدار البيضاء اليوم  -

الدولة بريئة

بقلم - توفيق بو عشرين

قال بنكيران في تمارة قبل ثلاثة أيام، إن الدولة «لم تكن تريد حزبه، لكنها قبلت به مضطرة في ساعة الشدة».  ولكي يضع المزيد من النقط على الحروف، ضرب للمستمعين مثلا لتقريب الصورة فقال: «وضعنا في المغرب يشبه أبا له 34 ولدا، ومن بين كل هؤلاء الأولاد، لديه ابن عزيز عليه، لكن، في ساعة الشدة والمحنة لا يعول على الابن المدلل، بل يعتمد على ذلك الابن المعقول والكفء، والذي يستطيع إخراج الأسرة من محنتها. أظن أنكم فهمتم الآن».

الأبناء هم الأحزاب، ورقم 34 هو عدد الدكاكين السياسية  في المغرب، والابن المدلل هو البام، والابن الكفء والمعقول هو البيجيدي -حسب بنكيران- والباقي لا يحتاج إلى توضيح.

لن أقف هنا على هذه الحقائق التي صارت بديهية، ومنها أن السلطة كانت تريد البام في المرتبة الأولى، وأن القائمين على شؤون الحكم  لا يقفون على المسافة نفسها بين كل الأحزاب في الماضي والحاضر، وربما في المستقبل القريب، لكن أريد أن أقف عند هذا الخلط الذي أصبح قاعدة في أذهان النخبة السياسية والإعلامية بين الدولة والنظام والسلطة… هناك فرق بين هاته الوحدات السياسية المشكلة لمعمارنا الدستوري والقانوني والسياسي، والخلط بينها وجمعها في سلة واحدة، أو في شخص واحد، يضر بفهم السلوك السياسي المعقد في البلد، ويضر بفكرة المؤسسات، وبمسار التحول الديمقراطي في البلاد.

الدولة كيان سياسي وجغرافي وقانوني يتشكل من الأرض (عقار له حدود مسجل في الأمم المتحدة)، وشعب تجمعه خصائص ثقافية وتاريخية ودينية وإرادة للعيش المشترك، ونظام سياسي مقبول من قبل السكان يحتكر العنف المشروع، ويضطلع بتوفير ضروريات الحياة للسكان، والدفاع عن الأرض، وتمثيل البلد في الخارج. هذا هو التعريف القانوني للدولة، لكن هناك تعريفا سوسيولوجيا أعمق من هذا يقول: «إن الدولة كيان مجرد يسمو فوق الأفراد، ويسمح لكل مواطن،  بلا عائلة ولا قبيلة  ولا دين ولا مال… بالعيش في أمان، وبتحقيق آماله وطموحاته. فمقابل الولاء الذي يبديه للدولة، والضريبة التي يدفعها للحكومة، والقانون الذي يحترمه، وجزء من حريته الذي يتنازل عنها للدولة،  تعطيه هذه الأخيرة الأمان والعدل وتساوي الفرص وضرورات العيش والتطور والنماء».

الدولة ليست فردا ولا جماعة ولا مربع سلطة، وشلة تحكم لوحدها. الدولة الحديثة فكرة تستهوي العقول، أولا، كشكل حديث وفعال لتنظيم الاجتماع البشري، وهي، ثانيا، تعبير عن عقد اجتماعي مكتوب أو غير مكتوب، فيه طرفان؛ النظام السياسي والشعب، وفيه حقوق وواجبات، والدولة، ثالثا، مظلة تغطي كل أطياف الشعب، وحتى عندما يخرج بها النظام السياسي عن دورها القانوني، وطابعها الأخلاقي، ويجعل من سلطتها الإدارية أو الأمنية أو العسكرية وسيلة لعقاب طرف دون آخر، فهذه الأعمال لا تجري باسم الدولة، بل باسم نظام أو حاكم  أو مسؤول أو موظف.

الدولة، بهذا المعنى، لا سياسة لها، ولا دين لها، ولا عرق لها، ولا حزب لها، ولا إيديولوجيا لها، ولا انحياز لها… إنها بيت المغاربة جميعا، وهذا البيت يجب الحفاظ عليه وحمايته حتى ممن يقوم على إدارة شؤونه، إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا ما يجعل الساسة في أي بلاد إما رجال دولة أو رجال سياسة والفرق واضح بين الاثنين.

ثلاثة أيام بعدما هرب الرئيس زين العابدين بنعلي من تونس، بعد زلزال الربيع العربي سنة 2011، زرت العاصمة التونسية  كصحافي يريد أن يرى تحولات كبيرة تجري في العالم العربي على مسرحها الحي، فوجدت رجال الأمن ينظمون السير في الشوارع، فسألت أحدهم: «ألم تفكر في نزع البذلة صباح اليوم الموالي لهرب بنعلي وتجلس في بيتك، مادام رئيسك رحل، أو بالأحرى هرب إلى السعودية، والنظام اهتز، والمشهد غير واضح؟»،  فرد علي باستغراب: «وهل أنا أشتغل عند بنعلي أم عند الدولة؟». فهمت أن هذا الموظف البسيط يفهم الفرق بين الرئيس والنظام والدولة.

يحكي الأديب المصري صاحب رواية «عمارة يعقوبيان»، علاء الأسواني، حادثة طريفة في هذا الباب، يقول إن له صديقا فرنسيا في باريس يدير واحدا من أكبر مسارح  الدولة في فرنسا، وكان هذا المثقف معروفا بشدة انتقاد الرئيس الفرنسي ساركوزي أيام ولايته، وكان دائم الاتهام له بأنه دون مستوى فرنسا، وأنه من العار أن يكون لبلاد الثورة الفرنسية المجيدة رئيس مثل ساركوزي، فسأله مرة الأسواني القادم من مصر بلاد الفراعين: «يا صديقي، ألا تعتبر أنك تجازف كثيرا بانتقاد الرئيس بشدة؟»، فرد الفرنسي: «وبماذا أجازف؟»، فأجاب الأسواني: «بمنصبك. ألست مديرا لمسرح عمومي تديره الحكومة»، قال: «نعم، ولكني لا أشتغل عند الحكومة. أنا أشتغل عند الدولة، وأنا أستغرب أن تتصور أن رئيس فرنسا، مهما كان سيئا، سيعاقب موظفا في الإدارة، مهما كان وقحا، لأنه يعبر عن رأي سياسي. الحكومة شيء والدولة شيء آخر يا عزيزي علاء، والدولة لا تنتقم من مواطنيها لأسباب سياسية، وإذا فعلت ذلك، فهناك قضاء مستقل وإعلام حر ورأي عام متيقظ».

الخلط بين النظام والدولة موجود عند المعارضين للنظام وعند الموالين له، على حد سواء، لذلك عندما ينتقد أي مواطن سلوك الحكام، يُتهم مباشرة بأنه ضد الدولة ومصلحتها، وضد البلد واستقراره، لأن فهم «كتيبة النظام» للمصلحة واحد لا شريك له، في حين أن المصلحة في الدنيا والدين كلها ظنية، وليست قطعية، متعددة وليست واحدة، خاضعة لقانون الاجتهاد وفيه الصواب والخطأ… لذلك، الذي أسس البام هو النظام وليست الدولة، ومجازا ننسب الحزب إليها تحت تأثير الخلط بين الاثنين، والذي لا يسلم منه أحد، بمن في ذلك كاتب هذه السطور.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولة بريئة الدولة بريئة



GMT 08:30 2022 الخميس ,07 إبريل / نيسان

مدن الإسلام: قرطبة زينة المدن

GMT 03:53 2022 الخميس ,10 شباط / فبراير

ريان الذي دعانا إلى الحياة وهو يموت!

GMT 15:52 2021 الثلاثاء ,16 آذار/ مارس

بايدن في البيت الأبيض

GMT 10:00 2019 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

مزوار: اذكروا أمواتكم بخير !

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 05:07 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

خلطات سهلة من بودرة القرفة والألوفيرا لشعر صحيّ ولامع

GMT 18:13 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

"حق الله على العباد" محاضرة بتعاوني جنوب حائل السبت

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 02:33 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

زاهي حواس يكشف حقائق مُثيرة عن مقبرة "توت عنخ آمون"

GMT 08:52 2018 الثلاثاء ,27 شباط / فبراير

توقيف أحد اللصوص داخل مدرسة التقدم في أغادير

GMT 07:35 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

ريتا أورا تُناهض التحرّش وتثير الجدل بإطلالة مثيرة

GMT 01:09 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

مصادر تنفي خبر مقتل الفنان اللبناني فضل شاكر في غارة جوية
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca