في كل 100 عام مرة

الدار البيضاء اليوم  -

في كل 100 عام مرة

ادريس الكنبوري

مرة سئل المؤرخ البريطاني المعروف أرنولد توينبي عن سوريا، فرد بأنها المنطقة التي إذا تطاحنت فيها القوى المختلفة وصل تأثير تطاحنها إلى العالم كله. وها هي قولة هذا الرجل تتحقق على أرض الواقع بشكل تدريجي، لأن الذين كانوا يأملون أن يكون هناك ربيع عربي في سوريا باتوا ـ اليوم ـ أمام خريف عربي شامل من الماء إلى الماء، كما قال ابن خلدون.
مجلة"التايم"الأمريكية الشهيرة نشرت هذا الأسبوع على غلافها خارطة لمنطقة الشرق الأوسط محاطة بألسنة اللهب، وكتبت في قلبها"نهاية العراق". وفي الداخل كان هناك ملف من خمس صفحات تحت عنوان"الحرب الأبدية في العراق"، تحدث فيه مايكل كراولي عن الأجندة الخطرة لتنظيم"الدولة الإسلامية في العراق والشام"(داعش) في العراق وسوريا، وذكر فيه بلعبة الغرب والولايات المتحدة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي في أفغانستان، حينما كانت تجند وتسلح المقاتلين السنة المتشددين للقتال ضد الاتحاد السوفياتي، من بينهم أسامة بن لادن الذي سيصبح فيما بعد زعيما لتنظيم القاعدة وينقلب على الغرب. فقد استعمل الغرب أولئك المقاتلين من أجل هدفين، وقف انتشار الشيوعية في أفغانستان والمناطق المجاورة لها، وإيقاف مد التشيع القادم من إيران.
التقرير كان مصحوبا بخارطتين متقابلتين، الأولى تمثل العراق وسوريا كما هما اليوم، أي كما رسمتهما اتفاقية سايكس ـ بيكو عام 1916(لا ننسَ أن الاتحاد السوفياتي هو الذي كشف عن وجود الاتفاقية بعد ثورة 1917 في إطار صراعه مع الغرب الرأسمالي حول المنطقة العربية)، والثانية تمثل دولة"داعش"المفترضة، التي يسيطر عليها مقاتلو التنظيم اليوم. وحسب التقرير فإن هذه الدولة سوف تشمل أراضي سوريا كما نعرفها منذ عقود، وقسما كبيرا من العراق عدا بغداد قريبا من الحدود مع الكويت. فالتنظيم المتشدد يسيطر عمليا اليوم على محاور رئيسية تمتد من حلب والرقة شمالا في سوريا إلى الموصل وكركوك وتكريت جنوبا في العراق. وهذا يعني أن الحدود التي كانت قائمة لم تعد موجودة.
غير أن خطورة تنظيم"داعش" لا تقتصر على سوريا والعراق وحدهما ـ كما جاء في التقرير ـ لأن عبارة"الشام" الواردة في إسم التنظيم لا تشمل سوريا فقط بل تضم حتى فلسطين ولبنان والأردن، كما كان عليه الوضع في العهد العثماني، بل هناك من يضيف أجزاء من المناطق الشمالية للمملكة العربية السعودية الحالية. وليس مستبعدا أن يكون ذلك واردا في أذهان من يخططون للعبة الجيوستراتيجية الجديدة، في أفق إعادة رسم خارطة المنطقة، على اعتبار أن مثل هذا المخطط كان واردا قبل أزيد من عشر سنوات، حينما تم التفكير داخل الغرب في تقسيم العالم العربي مجددا لخلط الأوراق وإرهاق العرب لعقود أخرى يتقاتلون فيها على الحدود، وكان ذلك بإشارات صريحة من خبراء عرب قدموا خبراتهم للغرب لتحقيق هذه الأهداف، بينهم فؤاد عَجَمي المختص في الدراسات الشرقية، صاحب القولة الشهيرة عام 2003 بأن "العراق قد انتهى"، الذي توفي يوم 22 من الشهر الجاري في أمريكا.
اللعبة ليست جديدة، فليست هناك منطقة في العالم يمكن أن يتعلم فيها المرء علم الاستراتيجيا ـ من الناحية التطبيقية ـ غير المنطقة العربية. وقبل ثلاث سنوات صدر كتاب هام للباحث الفرنسي ريمي كوفر تحت عنوان"القصة البطولية للهاشميين"، أجرى فيه قراءة دقيقة في 700 صفحة للتطورات الدرامية التي عاشتها منطقة الشرق الأوسط في ما بين الحربين. لماذا يعود باحث فرنسي إلى هذه الحقبة في القرن الحادي والعشرين؟ لأنه لا يمكنك أن تفهم حاضر العالم العربي من دون أن تكون قد فهمت ماضيه. وقد وضع كوفر في مدخل الكتاب ثلاث خرائط للمنطقة تمثل ثلاثة أوضاع جيوسترايتيجية مختلفة: وضع ما قبل سقوط العثمانيين، ووضع ما قبل زوال خط حديد الحجاز، ووضع ما قبل قيام إسرائيل، ولك أن تزيد من عندك وضع ما بعد قيامها.
ولكن المفارقة، أو"سخرية الحظ" كما يقال في الفرنسية، أن كلمة"ثورة" في العالم العربي دائما ما تكون مصحوبة بتفكيك المنطقة العربية في اتجاه الإضعاف. صحيح أن أوروبا عاشت نفس الأمر مع سقوط الإمبراطوريات الكبرى بفعل الثورات القومية وما يسمى بـ"الباكسا بريطانيكا" وظهور الدول القومية، ولكن هذه الدول هي التي أعطت القوة للقارة الأوروبية، على عكس ما حصل في العالم العربي الذي ترتبط فيه الثورات حتى اليوم بالتجزئة والتقسيم والضعف. والمثال الأوضح عن ذلك هو"الثورة العربية الكبرى"التي انطلقت مع الشريف حسين عام 1916، فرغم أن تلك الحركة أطلقت عليها كلمة"ثورة"في الغرب إلا أن المقصود كان هو الضحك على العرب، لأنه في الوقت الذي كان الشريف حسين يعتقد أنه يخوض ثورة كان الغرب قد انتهى من تقسيم المنطقة وفق اتفاقية سايكس ـ بيكو في نفس العام.
بيد أن الكارثة المحدقة بالمنطقة اليوم تتجاوز ما حصل قبل مائة عام، كما أن يكون الغرب هو المستفيد الرئيسي من هذه التحولات على حساب العرب الذين ضاقت بهم السبل وأصبحوا منشغلين فقط بملاحقة من يتوجه إلى سوريا ومن يعود منها، فهو يعرف جيدا أن الدولة الوطنية العربية اليوم أصبحت تقتصر على"علم تدبير العجز"، لا علم الخروج منه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في كل 100 عام مرة في كل 100 عام مرة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 12:41 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تبدو مرهف الحس فتتأثر بمشاعر المحيطين بك

GMT 09:52 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

أمطار صيفية تعزل دواوير ضواحي تارودانت

GMT 07:59 2018 الأحد ,15 تموز / يوليو

"بورش" تحتفل بالذكرى الـ70 لسيارتها الأولى

GMT 16:15 2018 الجمعة ,29 حزيران / يونيو

سامح حسين يكشف عن الأفيش الأول لـ"الرجل الأخطر"

GMT 08:36 2018 الأربعاء ,20 حزيران / يونيو

النفط ينخفض مع تهديد الصين برسوم جمركية على الخام
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca