السياسة باستدعاء الماضي

الدار البيضاء اليوم  -

السياسة باستدعاء الماضي

ادريس الكنبوري


في السنوات الأخيرة لوحظ نوع من الاستعمال المكثف للماضي في الحياة السياسية اليومية، كإطار مرجعي لتصريف الخلافات بين الفرقاء المتصارعين، أو كطريقة للاستمداد. فقد لاحظنا ظاهرة استدعاء الماضي في عدة محطات سياسية في المغرب، بحيث أصبح هذا الاستدعاء ينوب في أحيان كثيرة عن مواجهة الحقائق الواقعية، من خلال إسناد الخطاب السياسي في الحاضر على معطيات في الماضي، قريبا كان أم بعيدا. وهو ما ينم عن استمرار للماضي في الذاكرة السياسية الراهنة، بالرغم من الخطابات المتكررة عن طي صفحته خلال العشرية الأولى من هذا القرن.
وما يلاحظ في هذا الاستدعاء للماضي بالنسبة للفرقاء السياسيين أنه لم يعد يرتبط بالثنائية القديمة، ثنائية الأحزاب والدولة، بل أصبح بدرجة أساسية مرتبطا بالأحزاب السياسية نفسها في إطار تصفية الحسابات فيما بينها. ذلك أنه في العقود الماضية كان اللجوء إلى التذكير بالماضي يتم من طرف أحزاب المعارضة في علاقتها بالدولة، فكان التذكير بذلك الماضي نوعا من الدعم للرصيد النضالي للأحزاب السياسية. أما في المرحلة الراهنة، فقد أصبح هذا التذكير بالماضي يجري فيما بين الأحزاب السياسية نفسها، من أجل تجريم بعضها وإدانتها في المسرح السياسي، فانتقلت نقطة الارتكاز من الدولة إلى الحياة الحزبية. وهذا يعني أن إدانة القمع السياسي انتقلت من المركز ـ في إطار الصراع مع الدولة ـ إلى الأطراف، في إطار الصراع بين المكونات السياسية.
بدأ استدعاء الماضي بشكل واضح ـ خلال الفترة التي نتحدث عنها ـ عام 2009 عندما أحدث حميد شباط، أمين عام نقابة الاتحاد العام للشغالين وقتها، شرخا غير مسبوق في جدار العلاقة بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، بسبب خصومة سياسية بين الطرفين على خلفية الاحتجاجات النقابية التي قادها الاتحاد الاشتراكي ضد حكومة عباس الفاسي، رغم مشاركته فيها، وذلك عندما اتهم شباط الراحل المهدي بن بركة بالقتل وسفك الدماء. وبالرغم من الجرأة الكبيرة التي امتلكها شباط آنذاك في فتح هذا الملف، إلا أن الخلافات سرعان ما تم الالتفاف عليها، لأن مواقف أمين عام حزب الاستقلال الحالي كانت مدفوعة بالخصومة السياسية لا بالرغبة في إعادة قراءة مرحلة زمنية من تاريخ المغرب، هذا مع تأكيدنا على أن المجال الأكاديمي والعلمي لم يتفاعل مع تلك المواقف في اتجاه النبش من جديد في جزء من التاريخ المعاصر.
أما بعد تشكيل حكومة عبد الإله بنكيران عن حزب العدالة والتنمية فقد نشطت عملية استدعاء الماضي بشكل واسع، مقارنة بالسنوات الماضية. فقد هاجم عبد الكريم مطيع، زعيم حركة الشبيبة الإسلامية الموجود في منفاه بلندن في مذكراته، بنكيران وكال له النعوت القدحية، وكشف عن حقائق لم تكن معروفة لدى الكثيرين عن عدم ارتباطه بالحركة الإسلامية، بل اتهمه بالعمالة للسلطة التي صنعته. وكرد فعل غير مباشرة ومتأخر على ذلك الهجوم الذي سعى من ورائه مطيع إلى تجريد بنكيران من أي ماض، صرح هذا الأخير في لقاء حزبي بأنه تعرض عام 1995 لـ"محاولة اغتيال" في فرنسا، ولكن من دون أن يذكر التفاصيل، وهل للأمر علاقة بمواقف كانت له أم بجهات معينة كانت تتهمه بالتعامل مع السلطة.
وقد فتحت حكومة بنكيران نافذة واسعة للعودة إلى الماضي من طرف مختلف الفرقاء السياسيين، ففي إطار شد الحبل بينها وبين الاتحاد الاشتراكي لجأ هذا الأخير إلى استدعاء حادث اغتيال النقابي عمر بنجلون عام 1975، حيث اتهم الكاتب الأول للحزب ادريس لشكر رئيس الحكومة وحزبه بدعم قتلته، وقال في لقاء حزبي قبل عامين إن بنكيران خرج في مظاهرات للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين في ملف الاغتيال. وكان واضحا أن هذا الاستدعاء كان يغرض اصطناع المقابلة بين الماضي وبين الحاضر، للطعن في رئيس الحكومة بسبب طريقته في التعامل مع المعارضة و"الأسلوب الدموي" في الحوار السياسي، حسب تعبير لشكر.
وفي إطار نفس الخصومة السياسية اتهمت خديجة الرويسي، النائبة البرلمانية في فريق الأصالة والمعاصرة خلال اجتماع لإحدى اللجان البرلمانية، كلا من بنكيران وعبد الكريم الخطي ـ مؤسس الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية التي التحق بها إسلاميو حركة التوحيد والإصلاح عام 1996 ـ بـ"القتلة".
غير أنه بالرغم من كل هذه المواقف حول الماضي والاستثمار السياسي له، سواء من أجل إعادة تركيب الشخصية السياسية والبحث عن الرمزية كما هو الحال بالنسبة لرئيس الحكومة، أو من أجل تصريف خصومات سياسية كما هو الحال مع باقي الحالات الأخرى، فإن تلك المواقف ظلت في نطاق التصريحات. بيد أن الملتقى الدولي الذي عقد بمدينة طنجة في الأسبوع الماضي حول مقتل الطالب آيت الجيد محمد بنعيسى عام 1993، يعتبر أول تجربة لمأسسة ظاهرة استدعاء الماضي، إذ دعا الملتقى إلى إنشاء مؤسسة تحمل إسم الطالب ، وتحويلها إلى لجنة دولية لمناهضة الاغتيال السياسي. وهكذا فإن كلمة مؤرخ المتوسط فرناند برودل:"الماضي هو ما يزعج الحاضر" تظل صالحة للاستعمال في وصف هذه الخصومات السياسية التي تنتهي إلى عراك إيديولوجي مفتوح.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السياسة باستدعاء الماضي السياسة باستدعاء الماضي



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 12:41 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تبدو مرهف الحس فتتأثر بمشاعر المحيطين بك

GMT 09:52 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

أمطار صيفية تعزل دواوير ضواحي تارودانت

GMT 07:59 2018 الأحد ,15 تموز / يوليو

"بورش" تحتفل بالذكرى الـ70 لسيارتها الأولى

GMT 16:15 2018 الجمعة ,29 حزيران / يونيو

سامح حسين يكشف عن الأفيش الأول لـ"الرجل الأخطر"

GMT 08:36 2018 الأربعاء ,20 حزيران / يونيو

النفط ينخفض مع تهديد الصين برسوم جمركية على الخام
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca