الحريات الفردية من منظور القانون الجنائي

الدار البيضاء اليوم  -

الحريات الفردية من منظور القانون الجنائي

بقلم - القاضي علي كمال

إن من أهم الأمور التي يسعى إليها الإنسان في حياته أن يبيت آمنا في مسكنه، معافى في جسده وعقله، فإن حصل له ذلك فكأنما ملك الدنيا، فالأمن الشخصي والمعافاة في الجسد والنوم والاستقرار في الدار آمنًا، وما يتمتع به الإنسان من حياة خاصة، تعد كلها قوام الحرية الفردية التي تعد أساس كل الحريات التي يتمتع بها الإنسان، والتي صارت تشغل مكانًا مهمًا في الفكر القانوني في مختلف النظم السياسية ذات المذاهب والفلسفات المتباينة، ولأن الحرية الفردية أساس كل الحريات فإن أهميتها تبدو عظيمة، وبقدر تمتع الفرد بها يكون تفجير طاقاته وطموحاته في سبيل عمارة الأرض التي نعيش عليها. والحرية من زاوية الإنسان إنما هي تحقيق لذاته من خلال ما يحققه من نشاط تلقائي ذاتي يتطور حتى يكتسي بطابع إنساني يضفي على الحرية الفردية قيمة جديرة بالاحترام والتقدير، ويجعلها بعيدة عن التهجم واللوم، خاصة وأن النشاط الذاتي التلقائي للفرد يسعى إلى هدف اجتماعي يقتضي تصورًا معينًا للصالح المشترك بين الأفراد في المجتمع، بما ينطوي عليه من العدالة والسكينة والتقدم.
والعدالة تتحقق إذا كان الفعل الفردي عادلاً غير مخل بقواعد السلوك، التي يسعى كل فرد عاقل إلى اتباعها متفقًا مع صالح المجموع. والسكينة أساسها اعتراف متبادل بوجود الآخرين في نطاق المجتمع، مهما تعددت وتنوعت الروابط بين الأفراد، وما يجب تعيينه من حدود لكل فرد بما له وما عليه. والتقدم قيمة اجتماعية تسير بالمجتمع إلى الإمام نحو حضارة إنسانية متقدمة، تسعى سعيًا حثيثًا إلى السيطرة على القوى الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة بالإنسان، وتذليل الصعوبات المادية والتي تقف في وجه ذلك التقدم نحو حياة تكون دائمًا أفضل، فإذا كانت تلك صورة الحرية المشرقة فإنها ليست كذلك دائمًا، لأن سنة الحياة أن يعيش المجتمع في حركة دائمة وآنية ومتصلة لا تفتر، وهو في حركته يتطلع إلى مستوى أفضل ونظام أكمل، وفي سعيه إلى غاياته وأهدافه يصطدم بحرية الأفراد التي قد تحد من سيره وتثقل من خطاه، لذلك كان الفرد محور التنظيم القانوني ومن هنا شغل موضوع الحريات المتعلقة بالأفراد مكانًا مهمًا في الفكر القانوني لدى مختلف النظم السياسية ذات المذاهب والفلسفات المختلفة.
وفي العالم الغربي، كان ثمرة الكفاح الطويل الذي قامت به الشعوب والثورات التي أشعلتها ضد الحكام المستبدين أن تقررت الحريات الفردية، حيث انتزع الأفراد حريّتهم وأكدوا حقهم في حياة آمنة متحررة من الخوف والاستبداد والطغيان، وكان من نتيجة ذلك أن عمدت الشعوب والحكومات إلى تضمين هذه الحريات في دساتيرها، كفالة لها وضمانًا لممارستها. ثم ظهر في النطاق الدولي الاهتمام بالحريات وحقوق الإنسان، فنتج عن ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تبعه من اتفاقيات دولية وإقليمية، وقبل هذا وذاك كانت الشريعة الإسلامية قد تضمنت ذخيرة كبرى من مبادئ الحريات وحقوق الأفراد، قبل أن تظهر هذه الفلسفات بقرون عدة. ويكتسب موضوع الحماية الجنائية للحريات الفردية أهميته الخاصة لاتصاله بأهم شيء في حياة الناس، حيث يمس حريتهم الفردية بما فيها من حقوق لصيقة بشخص الإنسان لا تنفك عنه، فحريته في أمنه الشخصي وحريته في التنقل وحريته في مسكنه وحرمة هذا المسكن وحقه في سلامته البدنية والذهنية وحرمة حياته الخاصة، كلها حقوق لصيقة بالإنسان لا يجوز التعرض لها بأي شكل من الأشكال، وهذا لا يعني أن للأفراد حريات تفوق ما للمجتمع وأعلى منها، وإنما يعني أن للقرد حريته الفردية في حدود الشرع والقانون، لأن تشابك العلاقات بين الأفراد في حياتهم مجتمعين تجعل الفرد ملتزمًا بتنظيم حياته وحريته مع حرية وحركات الآخرين، فيترك الفرد في نطاق معين لشأنه يمارس حريته وفق رغبته، إلا أنه ملزم بالمشاركة في الحياة العامة وهذا أمر شائك يثير مشاكل كثيرة، أهمها ما تثيره الحماية الجنائية وهي تضع مداها ونطاقها وقدرتها على تمكين الأفراد من التمتع بحرياتهم الفردية، بدون تعرض الآخرين لهم.
فالسلطة إذ تضع الحماية لممارسة الأفراد لحرياتهم، فتمنع الآخرين من الاعتداء عليهم وتفرض العقوبة على هذا الاعتداء، فأنها من جانب آخر تضع أكثر القيود مساسًا بالحريات الفردية بما تتخذه السلطة من إجراءات جنائية، وبما يمارسه ممثلو السلطة من تطبيق للقانون فيتعرضون بذلك لحريات الأفراد، وهنا تثور المشكلة وهي مدى تحقق الحماية الجنائية لحريات الأفراد إزاء تعرض السلطة لهم، ممثلة في أفرادها، وإيجاد التوازن بين حق الدولة في ممارسة وظائفها وحماية المجتمع وتحقيق الحماية للحريات الفردية، وهي بصدد ممارسة وظائفها. وإذا كانت الحرية الفردية هي محل الحماية الجنائية، فإن الغاية التي يتوخّاها هذا المقال هي معرفة مدى الحماية التي يوفرّها القانون الجنائي للحريات الفردية عند تعرّض السلطة لها ممثلة في أفرادها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحريات الفردية من منظور القانون الجنائي الحريات الفردية من منظور القانون الجنائي



GMT 09:38 2016 الثلاثاء ,22 آذار/ مارس

«بوليساريو» الداخل..!

GMT 09:46 2017 الثلاثاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

برودكوم تعرض الاستحواذ على كوالكوم مقابل 130 مليار دولار

GMT 01:09 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

Poison Girl Unexpected الجديد من "ديور" للمرأة المفعمة بالأنوثة

GMT 18:56 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

الأهلي يخطف كأس السوبر بعد الانتصار على المصري بهدف نظيف

GMT 18:18 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

تامرعبد المنعم يصالح محمد فؤاد في حفلة زفاف

GMT 21:31 2017 السبت ,16 كانون الأول / ديسمبر

مدينة تاوريرت تستقبل حافلتين من اليهود

GMT 04:47 2017 السبت ,02 كانون الأول / ديسمبر

توقيف أحد مهربي المواد المخدّرة في مدينة بركان

GMT 23:59 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

مواهب صغيرة تُشارك في الموسم الثاني لـ "the Voice Kids"

GMT 21:14 2015 الأربعاء ,30 كانون الأول / ديسمبر

فوائد عصير البطيخ المر في القضاء على الخلايا السرطانية

GMT 19:59 2017 الجمعة ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

دار "LAVINTAGE" تغازل الباحثات عن الأناقة في مجوهرات 2018

GMT 06:17 2016 الثلاثاء ,05 إبريل / نيسان

دور المثقف في المجتمعات العربية
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca