"تاكس.. تاكس"..

الدار البيضاء اليوم  -

تاكس تاكس

يونس الخراشي

وجدنا صعوبة كبيرة في التعاطي مع ثمن الرحلات بسيارة الأجرة. وسبب المشكلة أن "الطاكسيات" لم تكن، في ذلك الوقت، تستعمل العداد. فكل ما في الأمر أنك تعرض وجهتك، ويقترح عليك السائق ثمنا لها. وكم كانت الأثمان فوق المستحق، فنتغاضى بفعل الضرورة.

في كل المرات التي ركبت "التاكس"، وهكذا ينطق المصريون الكلمة، متوجها إلى "استاد" القاهرة، أو عائدا منه، أو رائحا إلى مكان آخر، أو غاديا إلى الفندق، لم أهتم لثمن الرحلة بالدرجة الأولى، بقدر ما كنت أنصت للسائق وهو يحكي هموم الشعب المصري.

كانت تلك فرصة لا تعوض كي أعرف ما يقاسيه الشعب المصري من هموم، وسببها، وما يراه في الأفق المنظور، سيما أن أغلب من وجدتهم خلف مقود "التاكس" من مستوى تعليمي متميز، دفعهم غلائ المعيشة إلى الاشتغال "بعد الظهر"، كي يستطيعوا موازنة المداخيل مع المصاريف.

في مرة قال لي أحدهم، وبدا شابا مؤدبا، وصاحب كلام دقيق مرصوف، يؤكد أن مستواه التعليمي كبير، إنه يغادر الوظيف إلى السياقة، كي يعيل أسرته، وأمه وأباه، ويساعد أخا له ما يزال يواصل الدراسة. أكد لي، بدون أي رقابة ذاتية ظاهرة، أن أغلب المصريين يعيشون تحت الصفر. ورد ذلك إلى الحاكم؛ حسني مبارك، ومحيطه. 

قال الشاب، وكان يسوق سيارته الصغيرة والقديمة، بمهارة، وبسرعة، إنه لا يعرف متى سنتهي هذا البؤس، ولا كيف. كل ما يعرفه بأن الصبر بدأ ينفذ، والناس مقهورة. وحين سألته عن معدل الدخل، وكيف يتدبر الناس البسطاء معيشتهم، قال لي:"يا أستاذي، هذا السؤال لن يستطيع أحد من المصريين أن يجيبك عنه. تيقن من ذلك. إنها البركة التي تنزل علينا من السماء. فلو قلت لك إن معدل الأجور لا يمكنه أن يكفيك في شيء، فأحرى أن تؤدي به الإيجار وحاجيات البيت والأولاد، ستصدم. ولكن الناس، مع ذلك، يواصلون العيش".

في لحظة من اللحظات، وكنا قد بدأنا نقترب من "استاد القاهرة"، تمنيت لو أن الرحلة تطول أكثر، مهما غلا ثمنها، حتى أعرف المزيد. ساد بيننا صمت غير طويل، إذ كنت أشزر بطرفي عيني إلى السائق، بينما كانت عيناه على الطريق، وكأني به بطل في فيلم مصري، وقد اندمج في الدور، حتى اغرورقت عيناه بالدمع. ولم يمنعه من البكاء سوى الأنفة، وحب البلد، ورغبته في ألا يبدو كمن "يشحذ" من هذا الغريب شيئا ما.

في المرات الأخرى، وكان الزحام الذي لا يطاق؛ في وسط البلد على الأرجح، يشعل الغضب فتنطلق الكلمات الحارقة من الصدور، سمعت قصصا أسوأ لأناس أكثر حاجة. كلها تفيد بأن من تعاقبوا على الحكم لم يرفعوا مستوى المعيشة لدى المصريين، فـ"باز" التعليم، وخربت العقول الشابة، وتراكمت أعداد العاطلين عن العمل، وصار الحشيش مهربا من القهرة، وكان طبيعيا أن يشعل بعضهم الأثمان في "التاكس" وغير "التاكس".

قال لي أحدهم، وكنت أسأل عن التغذية عدا الكشري والفول والطعمية والسلطة في العيش، فقال لي:"لا تسأل عن اللحمة. فنادرا من يطعمها البسطاء". وحين اشتكيت له من ثمن الرحلة من وسط البلد إلى "استاد القاهرة"، انفعل بغضب شديد، وقال:"إخس عليهم ناس سفلة.. ليه بس ياخذو منكم اللي مش حقهم؟". 

تأكد لي من مطلبه البسيط أننا تعرضنا للكثير من النصب. ولكن لم يضرني ذلك. لقد تعرفت على أشياء من وحي الواقع، لا تقدر بثمن. وعرفت بأن ما كنت أقرأه في روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وما كنت أشاهده في أفلام عادل إمام ومسرحياته، مطابق لواقع مر. 

شيء واحد لم أشاهده في تلك الأيام من يناير 2006. بعض المطر. أما وسط البلد فصار صديقا، والشاي الأحمر حبيبا، فيما رائحة المعسل ضرورة فوق أن تدفع، وهي تحيط المكان، حتى تكاد تحوله إلى قرية في السحاب، هربا من الأرض الخراب.

إلى اللقاء.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تاكس تاكس تاكس تاكس



GMT 10:25 2019 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

الدفاع في الريادة

GMT 10:22 2019 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

"وشكون عرف؟"..

GMT 15:07 2019 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

"كلمة حق"..

GMT 13:45 2019 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

منتخبات مجنونة

GMT 05:00 2018 الأربعاء ,11 تموز / يوليو

أفكار عملية بسيطة لتنسيق حديقة منزلك في صيف 2018

GMT 05:38 2018 الأحد ,17 حزيران / يونيو

"ماتشو بيتشو" مدينة ألانكا لغز وعظمة طاغية

GMT 18:14 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

محاضرة بتعاوني جنوب حائل السبت

GMT 17:50 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الاختلاف والتميز عنوان ديكور منزل الممثل جون هام

GMT 01:19 2016 السبت ,17 أيلول / سبتمبر

د. باسم هنري يُبشّر بعلاج للإنزلاق الغضروفي

GMT 18:18 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أترك قلبك وعينك مفتوحين على الاحتمالات

GMT 07:12 2018 السبت ,08 أيلول / سبتمبر

جهزي طعامك بنفسك في مطعم " Dinning Club" في لندن

GMT 22:10 2018 الأربعاء ,29 آب / أغسطس

توقيف شخصا هاجم السفارة الفرنسية في الرباط
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca