يونس الخراشي
كان سفرا قصيرا وجميلا من خارج الملعب إلى داخله؛ من صخب الجماهير إلى هدوء المركز الإعلامي. نقلة عجيبة، أشعرتنا بأننا كسبنا الرهان، ويحق لنا الآن أن نضع الأوزار عن ظهورنا، ونستريح لدقائق، ثم نستأنف العمل. فهناك مباراة تاريخية تنتظر نقلنا تفاصيلها غير المرئية إلى مغاربة العالم. توجد دائما زوايا لا تصلها العيون، وأشياء لا تلتقطها الكاميرات، وإشارات تمر مرور الكرام. تلك بالضبط هي الطرائد التي يتصيدها الصحافي، ويعض عليها بالنواجذ، ليضعها رهن إشارة من ينتظرون الخبر. وهل الخبر إلا كل معلومة جديدة ومثيرة؟
كنا بين خيارين؛ أن نستعمل المصاعد أو الأدراج. فضلت، شخصيا، أن أستعملهما معا. نعم؛ الأدراج أولا، حتى أكتشفها، وأكتشف من خلالها طابقا بطابق، وكي أبقى نشيطا ومتيقظا، ولا أدع للإرهاق المتعاظم فرصة كي يغلبني في لحظات حاسمة. وقررت استعمال المصعد بين الشوطين، أو لاحقا، كي أكتشفه هو الآخر، وأعرف عن كثب نظام العمل في الملعب، وهل بالفعل يملك الروس خطة جيدة وفعالة تجعل المونديال جيدا. وبالفعل، وجدت الأدراج والمصعد معا يستحقان العلامة الكاملة. كلاهما كان فعالا. لا يحتاج أي منهما لمن يدلك على الاستعمال والاتجاهات. كل شيء موضح، وبارز، وما عليك سوى أن تتبع الإشارات.
حين صعدنا إلى المركز الإعلامي، الفسيح والنظيف، وجدناه مثل خلية نحل تعج بالإعلاميين من كل صنف. وواتتنا الفرصة، أخيرا، كي نبارك للزملاء الذين لم نلتقهم من قبل عيد الفطر. الوجوه بدت متعبة؛ بل قل مقهورة بفعل الجري وراء ما لا ينبغي لصحافي أن يجري خلفه. كان مفترضا في المؤسسات أو الجامعة، أو جهة أخرى، أن تتكفل بالرحلة من ألفها إلى يائها، على أن ينشغل الصحافيون بعملهم. حين تشتغل الكاميرات في المؤتمرات يسموننا شركاء في اللعبة. وفي ساعات الجد يختفون، ويتركوننا لمصيرنا. وفي كل الأحوال، فقد عرى الجميع على الساعدين. كانت التسخينات مثيرة ومدهشة، وكل الزملاء يبتسمون، معلنين رغبتهم في الاشتغال بكل ما أوتوا من قوة ليكون المردود محمودا.
أما ونحن نتجه إلى الملعب، حيث مواقع الصحافيين، فقد التقينا بالوجوه الباسمة لمتطوعي المونديال. كلهم شباب. كلهم مبتسمون. كلهم يعمل في موقعه. تماما مثل زهور الربيع، فواحة وجميلة وتبعث فيك الحماس للحركة والتقدم إلى الأمام. في كل خطوة هناك من يبادر ليطلب مساعدتك. وهكذا إلى أن تجلس في المكان المخصص لك. بعضنا منح موقعا بطاولة وتلفاز، وآخرون منحوا كراسي أقرب إلى الجماهير، مع زملاء في المهنة جاؤوا من إيران، وحتى من دول أخرى، أبرزها البرتغال وإسبانيا، اللتين كان منتخباهما معنا في مجموعة واحدة.
لم يكن الملعب، المبني كصحن طائر، والمغطى كليا، قد امتلأ بعد بالجماهير. وحدها أشعة الشمس، في ذلك اليوم الحار، ظلت تقذف العشب وهو يتغذى بماء منهمر من كل جانب، برشاشات تبرز من الأسفل. كانت بعض الأهازيج تسمع من هنا وهناك، وموسيقى صاخبة جدا تنزل من مكبرات معلقة في السقف، وترجع الجدران الرمادية الصقيلة، من كل جانب، صداها. وشيئا فشيئا كانت الجماهير تملأ مواقعها، في نظام بديع وسلس، ليس فيه لا زحام، ولا سب، ولا ضرب. فقد لاحظنا ونحن نعبر حديقة سان بتيرسبورغ، باتجاه الملعب، أن المعنيين "شتتوا" الجماهير، ووزعوها على المداخل، حتى يسهل توجيهها والتحكم في تدفقها.
في لحظات تالية، وقد صار الملعب مملوءا بجماهير مغربية وإيرانية جلست بجوار بعضها البعض، ومعظمها يتزيى بقميص المنتخب، دخل اللاعبون كي يجروا التداريب التسخينية. وهنا اختلطت الموسيقى الصاخبة بهتافات قوية للجماهير. ما أن يصمت للحظات هذا الجمهور، حتى يرد عليه الآخر بقوة. وهكذا دواليك، إلى أن عاد اللاعبون أدراجهم إلى مستودعهم، فإذا بالجماهير تطلق حناجرها دون توقف. تحول الملعب إلى مكبر ضخم للصخب الجميل. بدا بأن الحماس سيكون قويا للغاية. واتخذت مع زميلي رزقو، المصور الفنان، العمل لموقع اليوم٢٤ فسحة لترويض الكلمة والصورة. رحت ألتقط إشارة فأضعها بين يدي فريق العمل في المغرب، فيرد رزقو بصوره الفاتنة. وفي مرات كان يبادر بالصور، فأغمزه بمقالة. لم نتوقف. كان عملا لذيذا. قلت لنفسي ساعتها:"الصحافي لم يخلق للمكاتب. هنا الخبر، هنا متعة الكتابة".
حين وقفنا لتحية النشيد الوطني عرج بي قلبي إلى السماء. رمقت شاشة الملعب حيث كانت الكلمات تكتب تحت الصور. "بالروح.. بالجسد.. هب فتاك.. لبى نداك". لم أعرف هل تراني أبكي أم أطير فرحا.. وإذ استعدت موقعي، وما يزال الجمهور واقفا ينتشي بنفسه وقد ردد النشيد حوالي أربعين ألف مغربي جاؤوا من أنحاء العالم ليبعثوا رسائل حب لبلدهم وأنفسهم، فقد بقيت للحظات غير قصيرة تحت وقع خدر عجيب. لم يكن سهلا أن أستعيد نفسي بسرعة، رغم أنني رحت ألتقط إشارات جديدة، أبعث بها إلى الموقع، عساه يغذي قراءه بخبر طازج؛ بل قل خبر يصنع على أعيننا.
لم يتوقف الجمهور للحظة عن التشجيع. كنت أحدق، بين لحظة وأخرى، في كل زوايا المدرجات، وعيني على "طبق" المباراة في التلفاز الموضوع أمامي، وفي أرضية الملعب، فأجدني إزاء شيء غريب للغاية. نفس الأسئلة ملأت علي قلبي في تلك اللحظات؛ ما الذي يجعل هذه اللعبة فاتنة للجماهير؟ لماذا يحبونها بجنون؟ كيف لشخص أن ينتقل آلاف الكيلومترات ليشاهد مباراة في لعبة رياضية؟ وأنا، الصحافي، كما يقال، هل ينحصر دوري في نقل المشهد الكروي فقط؟ هل ينحصر في نقل وقائع اللعب بين المنتخبين؟ ألا يجدر بي أن أركز على هذه الملحمة الباذخة التي يصنعها الناس من حولي؟ هل أكتفي بأرضية الملعب؟ وما قيمة المباراة عند القارئ وهي منقولة في كل الوسائط ومن كل الزوايا؟ ألا يجدر بي أن أنقل المشاعر؛ تلك التي تتحدانا، وتصنعنا؟
وعندما لاحظت بأن لاعبي المنتخب المغربي يتهافتون على طلب قناني الماء منطاقم رونار، وقد راحت المواجة الكروية تقضم من زمنها، خمنت أنهم استنزفوا ما لديهم من طاقة في بداية المباراة. كان المدرب يريد الحسم مع البداية. ولسوء الحظ، فقد ضيع اللاعبون كل الفرص. وفطن كيروش، مدرب الإيرانيين، إلى نقطة الضعف، سيما وقد تراخى زياش وبلهندة على وقع تحركات حريث غير المجدية، ليدفع بلاعبيه نحو الأمام. أكثر من ذلك، وجدته قد أوصى لاعبه البديل بتوجيه ضربة قوية لأمرابط ليشل لاعبا مشاغبا. ثم سجل الايرانيون الهدف، وكادوا يسجلون ثانيا وثالثا. ولم يعد عندي شك بأن رونار يتابع المباراة مثلي، على الأقل أنا صحافي، أما هو فلم يكن يجدر به أن يتابع فقط. وانتهى كل شيء بهزيمة أخرجت المغرب من المونديال حتى قبل أن يدخله. كل الذي جاء بعد ذلك كان مجرد كلام.