بقلم - عبد اللطيف المتوكل
أصررت بعد تفكير عميق على الذهاب وحيدا إلى مقبرة "الرحمة"، لحضور تشييع الراحل مصطفى مديح إلى مثواه الأخير، بعد صلاة عصر يوم الأحد 4 نونبر 2018.
إنه يوم أحد، ومن الأفضل أن أتوجه وحيدا إلى حيث نهايتنا المحتومة، لعل وعسى أكسب أجرا وحسنات تنفعني في الدنيا والآخرة.
وقفت في الشارع أبحث عن سيارة أجرة صغيرة تحملني إلى الألفة(نهاية خط النقل الحضري ال50)، وبعدها استلقي سيارة أجرة كبيرة في اتجاه المقبرة، فإذا بسائق طاكسي يحمل معه زبونا يسألني عن وجهتي، أجبته، خمن بسرعة فائقة وحرك رأسه دون أن ينطق بكلمة، ليطلق عجلات سيارته ل"الريح"، لكن ردة فعله توحي بأنه كان يردد مع نفسه لازمة "راك مامسلكنيش"!!.
وما أن التفت حتى وجدت طاكسي صغير آخر يقف بهدوء وكأنه كان يراقب ما جرى بيني وبين السائق الذي كان حظي معه عاثرا!.
صعدت وأخبرته بوجهتي، وقلت له هل أصبح من حق الطاكسيات الصغرى أن تعبر إلى عمق مدينة "الرحمة"، فأجاب مبديا تأسفه "لا.. ليس بعد.. رغم أن المنطقة تابعة للمدار الحضري. حدنا نهاية الخط ال50"، واستدرك كلامه ببعث رسالة اطمئنان: "الوصول إلى المقبرة ميسر عبر الطاكسيات الكبيرة وهي متوفرة وتشتغل بشكل لافت بين الالفة والرحمة".
تحرك السائق الشاب، الذي يبدو من ملامحه أنه قريب من العقد الرابع في عمره، في الإتجاه المحدد، وشرعنا في ترديد أدعية التضرع إلى الله عز وجل بأن يتغمد السي مصطفى مديح بالمغفرة والرحمة والثواب.
ثم أخذ كل منا يعدد مناقبه وشيمه وطبيعة شخصيته المجبولة على الهدوء والحلم (بكسر الحاء من فضلكم) والتواضع والصبر واحترام الآخر والبعد عن الثرثرة وكثرة الكلام غير المجدي.
بعدها استدار السائق محذقا النظر في ملامحي، وهو يقود السيارة بسرعة بطيئة بعض الشيء، ليخبرني بأن كنيته مديح واسمه حسن، وبأن أباه اسمه مصطفى مديح.
لكن لا قرابة عائلية تجمعه بالراحل السي مصطفى!!.
أخرج بطاقة التعريف الوطنية من دولاب صغير داخل الطاكسي، ليؤكد لي صحة المعلومة بالدليل القاطع، وبادلته بعبارة "أثق في حديثك وليس هناك ما يمكن أن يدفعك للكذب.. أثق فيك".
وبادرني بالقول إنه علم بخبر وفاة السي مصطفى صباح الأحد عن طريق زوجته، التي علمت بخبر الوفاة وهي تتصفح الفايسبوك، إذ ما أن ابلغته بخبر وفاة مصطفى مديح حتى كاد يعتقد أن الأمر يتعلق بالوالد، لو لا استحضاره في الحين أن الزوجة معتادة على مناداة صهرها بالعم!!.
وحكى لي قصة طريفة لازمته في مساره الدراسي، حيث كان أغلبية من يصادفهم ويلتقيهم داخل المؤسسة التعليمية التي يدرس فيها من أساتذة وإداريين، يبادرونه بالسؤال عن درجة قرابته للمدرب مصطفى مديح، فيجيبهم على الفور إنه عمي!!.
وأكد أن هذه الحيلة التي اهتدى اليها ساعدته في كسب عطف وود الكثير من الأساتذة والإداريين.
لكن أجمل ما حكاه لي صديقي السائق حسن مديح، هو توقفه ذات مرة ليقل زبونا، يضع على رأسه قبعة، وعلى عينيه نظارة شمسية، ليكتشف بعد ذلك أن الجالس الى جانبه في الكرسي الأمامي لم يكن سوى المدرب أو لنقل "العم مصطفى مديح"!!.
وأضاف أنه في تلك اللحظة غمرته فرحة خاصة لأنه التقى بالعم الذي استعمله ذات فترة كورقة لاستمالة عطف وتقدير أسرة التعليم!!.
واستطرد قائلا أنه بمجرد أن تأكد من أن الجالس إلى جانبه هو مصطفى مديح المدرب حتى بادره بالقول: عمي مصطفى، لترتسم على محياه علامات الاستغراب، حول هوية وحقيقة هذا الذي يناديه ب"عمي".
فتكفلت بعملية الشرح والتفسير لتبديد علامات الاستغراب وسوء الفهم!!.
وبعد أن وضعه في السياق الحقيقي لقصة العم، حكى له قصة أخرى طريفة، تتعلق باكتشاف أحد الإداريين أن إسم والد حسن مديح هو مصطفى مديح، فلما سأله عن السر في هذا التشابه أجاب التلميذ "النابغة" بأن الوالد والعم توأمان!!.
وأكد أن السي مصطفى "شبع ضحكا" وهو يستمع لهذه القصة، ووجد السائق نفسه مجبرا أخلاقيا على توقيف العداد إلى حين إيصال السي مصطفى إلى وجهته، لكن المفاجأة كم كانت كبيرة عندما وصل السي مصطفى إلى حيث يريد وهو يصر على أداء الواجب، لكن اعتراض السائق لم يحل دون وضع السي مصطفى لمبلغ من المال داخل الطاكسي، أخرجه من جيبه ووضعه دفعة واحدة في الداخل ليتبين بعد ذلك أن هذا المبلغ تبلغ قيمته 600 درهم!!.
وصلت إلى حيث يجب أن آخذ طاكسي كبير، للوصول إلى مقبرة "الرحمة" خصوصا أن الوقت الفاصل عن أذان العصر لا يتجاوز 10 دقائق.
ودعت حسن مديح، وتمنيت له مسارا موفقا وناجحا، وحمدت الله كثيرا على أن قيد لي أن التقي بمديح سائق الطاكسي ليقربني من حضور جنازة مديح المدرب والصديق والمربي الصادق.
مديح الذي آلمني فراقه بعد أقل من شهرين على تحديه ومقاومته للمرض، أبى إلا أن يرافقني من اول خطوة اخطوها لكي أحضر جنازته والقي على جثمانه وروحه الطيبة كلمة: وداعا السي مصطفى.. رحمك الله..
إلى جنات الخلد بمشيئة الرحمان.