بقلم: يونس الخراشي
التسمم الغذائي أقسى أنواع التعذيب التي تنزل بالغريب. وقد أصبت به على حين غرة، أحد أيام فبراير 2006، بالقاهرة. ولم يكن ممكنا أن أبقى على السرير، فالصفحات البيضاء لا ترحم، والصحافي المبتعث في مهمة أشبه بجندي، عليه أن يبقى واقفا حتى حين يموت.
كنت أحاذر كثيرا من المأكولات المصرية. ليس لأنها ليست طيبة، أو بلا مذاق جميل. بل لأن لكل شعب معدته الخاصة، التي تربت على مأكولات بعينها. وأي تغيير مفاجئ، قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. وهو ما حدث معي بالفعل، ومع آخرين من الزملاء في رحلات كثيرة خارج المغرب.
سألت نفسي، وأنا أحاول أن أتمالك نفسي من شدة الألم، عن الأكلة التي قد تكون سببت لي التسمم. غير أنني لم أصل إلى شيء. وربما كنت أتساءل فقط كي أنسى الألم، إذ أني جربت، بالفعل، أكلات عديدة، وكان اليوم يمر بسلام.
فالمصريون يعتمدون في مائدتهم اليومية على أشياء بسيطة للغاية، تقوم في معظمها على الخضراوات والفواكه، أما الطبق الأساسي فيتوزع بين الكشري والفول والطعمية والسمك، واللحم أيضا، الذي يقدم في أشكال متنوعة، لعل أبرزها أكلة "الحواوشي"، وهي عبارة عن لحم مشوي وسط العيش (أشبه بالبانيني).
وبينما كنت أفطر بالشاي المصري الأحمر الجميل، وبعض المخبوزات الحلوة، الرخيصة، أو بالعيش والجبنة، فقد كنت أفضل الكشري في الغذاء، وحتى في العصر، لأنه مصنوع من المعجنات التي يصب عليها بعض العدس والحمص، مما يؤدي إلى شبع مطلوب، لكسب الوقت، والعمل لأطول فترة ممكنة بلا جوع.
وفي المرات القليلة التي غيرت فيها تلك العادة الرتيبة، طلبا لبعض المتعة، لم أجد نفسا مغربيا في المطبخ المصري، حتى حينما اقترح علي الزميل سعيد ياسين، مرة، أن نزور طباخا يعرض "طجين السمك". فالتوابل المغربية لم تكن كافية لتجعل من السمك أكلة أعرفها، ولعل للمنشأ كلمته الفاصلة في أمور كهذه.
ولا تسأل عن العصير المصري، فهو عصير ملكي بامتياز. وقد لاحظت، طيلة المقام بالقاهرة، أن هناك محلات صغيرة مختصة في كل أنواعه. ولعل الإقبال عليه منقطع النظير؛ ليس فقط لأنه بثمن مقبول على العموم، ولكن أيضا لأنه يوفر لذة لا توصف، بفعل التنوع. فبين القصب الحلو والكركدي الحامض والرمان المر الحلاوة والليمون المنعش، يحلو للمرء أن يكتشف تلك المحلات البسيطة بمترين طولا وعرضا، تتوسطها عصارة كبيرة للقصب، وأوان وضعت فيها حبات الفاكهة المختلفة، مهيأة لكل طالب انتعاشة ولذة.
شرحت للصديلي ما يوجعني. فقال لي:"هل تريد علبة دواء كاملة أم بعضا منها؟". لم أفهم المقصود. فراح يوضح لي على مهل، وهو يفتح العلبة، ليؤكد لي بأنهم يبيعون "الديطاي". لم أملك أن أبتسم لشدة الألم في بطني. وقلت له:"بل أريد علبة". دعا لي بالشفاء العاجل، وغرق بسرعة وسط مئات علب الدواء الموضوعة على الأرض، وفي كل أرجاء "الأجزخانة".
وإذ كنت أستعد للعودة إلى الفندق، وأفكر في طول الطريق على الرغم من قصرها، لم أدر كيف قمت من مكاني بالغرفة، ولبست ثيابي، وخرجت أبحث عن الدواء. وللمرة الأولى ألاحظ بأن كل ما حولي لم يعد له ذلك الطعم السابق. كل شيء صار باهتا على حين غرة. يا لسطوة المرض؛ لك الله أيها الصحافي الغريب