الرئيسية » عالم الثقافة والفنون
أبوالعتاهية شاعر عباسي بارز

القاهرة - اسامة عبد الصبور

يُصنف أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، المكُنى بأبي العتاهية باعتباره أبرز شعراء الخلافة العباسية، وقد كناه الخليفة المهدي فلازمته الكنية ومشتقاتها اللفظية إلى الأبد فكان يكنى بأبي العتاهيه والعتاهي.

وكلمة "عتاهية" تدلُّ على معانٍ كثيرة؛ فيقول بن منظور في "لسان العرب": "عته في العلم: أولع به وحرص عليه، والعتاهية ضلال الناس من التجنُّن والدهش، والتعتُّه المبالغة في الملبَس والمأكَل، ورجل عتاهية أحمق، وتعتَّه تنظف، كما قيل إنَّه كان له ولدٌ يُقال له: عتاهية، وهو القول الضعيف؛ لأنه لو كان الأمر كذلك للقب  بأبي عتاهية بغير تعريف.

ولد أبو العتاهية في عين التمر، وهي قريةٌ قرب الأنبار غرب الكوفة العام 130هـ، وانتَقَل مع أبيه صغيرًا إلى الكوفة، حيث كانت مدينة العلماء والمحدِّثين والعبَّاد والزهَّاد، وقد عاصَر فيها الشاعر أمثال علقمة بن قيس، وعمرو بن عتبة بن فرقد، والربيع بن خيثم، وأُوَيس القرني، والنخعي، والشعبي، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، والكسائي، والفراء.

نشَأ أبوالعتاهية نشأةً مُتواضِعة؛ إذ كان أبوه وأهله يصنَعون الفخَّار، فعمل بصناعة أبيه، وكان يحمل الفخَّار في قفصٍ على ظهره، ويَدُور بها في الكوفة ليبيعها.

ومع اتِّساع الكوفة وانتِشار الرخاء، نشَأَت فيها طوائِفُ من المُجَّان يقولون الشعر، متنقِّلين على معاهد اللهو، ومُوغِلين في حمأة المفاسِد، يَفسُقون ويتهتكون ويتزندَقُون وينعتون أنفسهم بالظرف، وأنهم حلية الأرض ونقش الزمان؛ أمثال: حماد بن عجرد، ومطيع بن إياس، ويحي بن زياد، وغيرهم، وفي هذه البيئة نشَأ أبو العتاهية، وكان يُخالِط هؤلاء الشُّعَراء المجَّان، ويختلف إلى حلقات العلماء ومجالس العبَّاد، ثم لم يلبَثْ أنْ تفتَّقت شاعريَّته، وأحسَّ من نفسه قدرةً على النَّظم؛ فأنشَدَ جماعة من مُتَأدِّبي فِتيان الكوفة شعرًا له، فأعجَبَهم، وأذاعُوه بين الناس، فإذا بطلاَّب الشعر والأُدَباء من أهل الكوفة يقصدونه، ويستَنشدونه ويكتُبون أشعاره على ما تكسر من الخزف في معمله.

ووفَد أبوالعتاهية إلى بغداد في خِلافة "المهديِّ" (158 - 169) في نحو الثلاثين من عمره، وكانت بغداد قد أخَذَتْ في الازدِهار، فانتَقَل النشاط العلمي من الكوفة والبصرة إليها بعد أنْ أصبحَتْ دار الخلافة، ومن ثم ذاعَ خبرُه ببغداد، فاستقدَمَه "المهدي" وقربه إليه، ومنذ ذلك الحين اتَّصَل أبو العتاهية به، وتَوالَتْ مدائحه فيه، فأكرَمَه وقدَّمَه على كبار شُعَراء عصره، ومنهم: بشَّار بن بُرد.

وفي هذه الفترة كان أبو العتاهية يقول الشعر مادحًا، وهاجيًا، ومتغزِّلاً غزلاً رقيقًا لينًا في جارية تسمى "عتبة"، وذاع صيته وانتشرت أشعاره بين الناس انتشارًا واسعاً.

وفي أيَّام الرشيد تنسَّك أبوالعتاهية، وزهد في الدنيا، وداخَل عالم العلماء والصالحين، ونظَم ما استفاده ووعيه من أهل العلم، فكان نظمه في الزهد والمواعظ والحكم لا مَثِيلَ له، وكأنَّه مأخوذٌ من الكتاب والسنَّة، وصار الزهد مذهبًا لأبي العتاهية، وطارَ شعرُه على الألسنة، وأقبَلَ عليه جمهورٌ من الخاصَّة والعامَّة.

وقد تعصُّب الرشيد لأبي العتاهية وتقديمه شعرَه على شعر كثيرٍ من كبار الشعراء من مُعاصِريه، وأمَّا العامَّة فكان أبو العتاهية يُلقِي عليهم شعرَه في المحافِل، فيزدَحِمون من حوله لسماعه ويُصفِّقون له ويتجاوَبون معه؛ لإحساسهم بأنَّه يعبِّر عن إحساساتهم الدينية، وميولهم الروحيَّة.

 لقد زهد أبو العتاهية في الدنيا، وفي لذائذها وشَهواتها، وخافَ الموت وما بعدَه، وخوَّف منه بأشعاره ، وذكَر من ذلك كثيرًا في شعره ممَّا يُعِين أهلَ العقل والدِّين والتقوى، ويَبعَثهم على الزهد في الدنيا.

 وبعد هذا تأتي أشعارُه الكثيرة التي يَشكُو فيها من ظُلم الناس وحسَدِهم إيَّاه، أو التي تدلُّ على حسن اعتقاده، وسلامة دينه، ونزعته إلى الزهد والوعظ والحكمة؛ لنُؤكِّد أنَّ الرجل قد تاب حقًّا وزهد في الدنيا صدقًا.

ومَن يقرأ في أرجوزته المزدوجة التي أسماها "ذات الأمثال"، يُدرِك أنَّه كان يستَوحِي عقلاً واعيًا ونظرةً ثاقبةً وفكرًا، وأنَّه فكَّر وتأمَّل فوقَف على ما في الحياة من خيرٍ وشرٍّ، وأدرَكَ أنَّ على الإنسان أنْ يُنمِّي فطرةَ الخير فيه، ويُقاوِم مَنازِع الشرِّ.

ومنها قوله:-

إِنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالجِدَةْ

مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَةْ

هِيَ الْمَقَادِيرُ فَلُمْنِي أَوْ فَذَرْ

إِنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَمَا أَخْطَا القَدَرْ

مَا انْتَفَعَ المَرْءُ بِمِثْلِ عَقْلِهِ

وَخَيْرُ ذُخْرِ المَرْءِ حُسْنُ فِعْلِهِ

ويُمثِّل شعر أبي العتاهية في الزهد اتِّجاهًا مهمًّا في تطوُّر الشعر العربي في عصره، ويُعَدُّ من مظاهر التجديد فيه ، فقد أعفى أبو العتاهية نفسه من مجاراة الشعر التقليدي، وجنَح بشعره إلى الشعبيَّة في الموضوع ومضموناته، وفي اللفظ والعبارة أيضًا.

وكان من أهمِّ خصائص أبي العتاهية في شعره الزاهد: سهولةٌ وشعبية في الألفاظ تُقرِّب شعرَه إلى أفهام الناس وتُحبِّبه إليهم، وتنزل به من سماء الشعر إلى دنيا الناس والواقع والحياة، هذا بالإضافة إلى قُرب مَعانِيه ولطفها، وبراءتها من التعمُّق أو الغموض، والقصد إليها دون واسطةٍ من صورة أو غيرها من ألوان البديع التي أولِع بها شُعَراء عصره، إلاَّ أنْ يأتيه شيءٌ من هذا عفو الخاطر.

 كلُّ ذلك إلى جانب غَزارَةٍ في المعاني أمدَّتْه بها حياتُه وسط العامَّة في الكوفة، ونشأته المُتَواضِعة بين عامة الناس، فكان ما وَعاه طبعُه وأفادَتْه قريحته منها أكثر ممَّا اكتَسَبه من تأدُّبه، واقتَناه من عِلمِه، وهذا ما جعَل شعره عامي المذهب، سريع الولوج إلى القلوب، قوي التأثير فيها.

وقد توفي العام 211هـ في بغداد عن عمر ناهز الـ80 عامًا تاركاً خلفه رصيدًا من الشعر يخلّد اسمه في ديوان الشعر العربي كأحد أهم رموز العصر العباسي.

View on casablancatoday.com

أخبار ذات صلة

عيسى مخلوف في ضفافه الأُخرى: سيرة الذات والآخر
الروائية رشا عدلي تكشف المستور و"شغف" تصل بها إلى…
أنور الخطيب يوقّع ديوانه المنَحوتة مفرداته " كثير الشوق"…
في افتتاحه معرض الشارقة الدولي للكتاب الشيخ سلطان يعلن…
فيلم "أزرق القفطان" لمخرجته مريم التوزاني لتمثيل المغرب في…

اخر الاخبار

"الحرس الثوري الإيراني" يعيد انتشار فصائل موالية غرب العراق
الحكومة المغربية تُعلن أن مساهمة الموظفين في صندوق تدبير…
روسيا تُجدد موقف موسكو من الصحراء المغربية
الأمم المتحدة تؤكد دعمها للعملية السياسية لحل نزاع الصحراء

فن وموسيقى

أشرف عبد الباقي يتحدث عن كواليس "جولة أخيرة" ويؤكد…
وفاة الفنانة خديجة البيضاوية أيقونة فن "العيطة" الشعبي في…
كارول سماحة فَخُورة بأداء شخصية الشحرورة وتستعد لمهرجان الموسيقى…
شيرين عبد الوهاب فخورة بمشوارها الفني خلال الـ 20…

أخبار النجوم

أمير كرارة يحافظ على تواجده للعام العاشر على التوالى
أحمد السقا يلتقي جمهوره في الدورة الـ 41 من…
أنغام تستعد لطرح أغنيتين جديدتين بالتعاون مع إكرم حسني
إصابة شيرين عبدالوهاب بقطع في الرباط الصليبي

رياضة

أشرف حكيمي يوجه رسالة للمغاربة بعد الزلزال المدّمر
الإصابة تٌبعد المغربي أشرف بن شرقي عن اللعب مع…
المغربي حمد الله يقُود إتحاد جدة السعودي للتعادل مع…
كلوب يبرر استبدال محمد صلاح في هزيمة ليفربول

صحة وتغذية

فوائد صحية مذهلة مرتبطة بالقلب والمناعة للأطعمة ذات اللون…
النظام الغذائي الأطلسي يخفف من دهون البطن ويحسن الكوليسترول
بريطانيون يطورُون جهازًا جديدًا للكشف المبكر عن أمراض اللثة
اكتشاف مركب كيميائي يساعد على استعادة الرؤية مجددًا

الأخبار الأكثر قراءة