الجزائر - الدار البيضاء اليوم
متأبطا عوده، يقف على رصيف شارع الحسن الثاني، الذي يطل عليه أحد المقاهي المزدحمة وسط مدينة فاس، موصلا آلته الموسيقية بمكبر صوت محمول ليجذب إليه الانتباه، وقد وضع علبة مرغرين فارغة يرمي فيها المارة ورواد المقهى ما يجودون به عليه من قطع نقدية يعزف ويردد بصوت شجي أغاني خالدة لرواد الأغنية المغربية والشرقية في نشوة لا يريد أن يستفيق منها، قبل أن يستغل لحظة استرجاعه أنفاسه ليجمع ما حصل عليه من دريهمات يضعها في جيبه، ثم يشرع في تقديم وصلة أخرى، محركا وجدان جمهوره بأدائه المتميز، لحنا وعزفا، لروائع من الأغنية الطربية المغربية والعربية القديمة.
هذا هو حال الفنان أحمد العلمي العروسي، البالغ من العمر حوالي 70 عاما، الذي عاش مسيرة فنية غنية بصم فيها على مسار عدد من نجوم الأغنية المغربية، مثل سميرة بنسعيد، من خلال البرنامج التلفزيوني "مواهب"، الذي كان يقدمه الفنان عبد النبي الجراري، قبل أن يجد نفسه في أرذل العمر "متسولا" يعزف على عوده في شوارع مدينة فاس بحثا عن لقمة عيشه.
الحياة الشخصية لهذا الفنان، الذي صقل موهبته في العزف على العود على يد المطرب محمد صادقي مكوار، تحفل بالكثير من القصص المثيرة، منها تعرضه للتعذيب على يد البوليساريو، التي اختطفته بنواحي السمارة، وعيشه مدة طويلة في الجزائر بعد تهريبه إليها، وغناؤه بإذاعة وهران، قبل توقيفه بتهمة التجسس لصالح المغرب
الفنان أحمد العلمي العروسي، الذي ازداد بمدينة فاس، أكد في لقاء جمعه بهسبريس أن الكثير من أغانيه رددها فنانون مغاربة مثل "الزين يا زين لفعال" و"النظرة فيك جميلة"، مشيرا إلى أنه هو صاحب أغنية "العظمة مامنوش"، ومؤلف وملحن عدد من الأغاني لشيوخ العيطة الجبلية، "لكنهم كانوا ينسبونها إلى أنفسهم سامحهم الله"، يقول العلمي العروسي، الذي ما إن يبدأ يتحدث عن فصل من حياته حتى يعود ليسرد فصلا آخر أكثر تشويقا.
وخلال هذا اللقاء استعرض العلمي العروسي قصة لقائه بالمطرب عبد النبي الجراري قائلا: "كان عمري 16 سنة حين كلفني الجراري بالعزف على العود لتدريب المشاركين على الغناء في كواليس برنامج "مواهب" بمسرح محمد الخامس، ومنهم الطفلة سميرة بنسعيد، التي كان عمرها 7 سنوات، وحسبما أتذكر كان ذلك سنة 1968".
"لقد بدأ ولعي بالموسيقى، وعمري 8 سنوات، في وزان حيث كنت أشتغل مع "معلم" في الخياطة يسمى أحمد بلشهب، الذي كان عضوا بجوق حليحل، أحسن مجموعة موسيقية في تلك الفترة بمدينة وزان"، يتابع العلمي العروسي، مشيرا إلى أنه غنى رفقة شقيقه الأكبر بنعيسى أغنيتي "الشمس غربت والوقت فات" و"ارحم يا رسول الله" خلال زيارة السلطان محمد الخامس لمدينة وزان بعد عودته من المنفى.
وأضاف العلمي العروسي متحدثا عن هذه المحطة: "غنى من بعدي في هذا الحفل الصحافي والعازف على العود الفنان محمد الصادقي مكوار، الذي كان يرافق السلطان محمد الخامس في زيارته لوزان، وبعد أن أنهى عرضه انضممت إليه رفقة شقيقي لمشاركته الغناء في خيمة حزب الاستقلال، وقد أدينا كشكولا من الأغاني الوطنية، فكان مكوار يعزف على العود، وأنا على الدربوكة، وشقيقي بنعيسى على الطّر".
"خلال هذا الحفل داخل خيمة حزب الاستقلال، التي تم نصبها قرب السوق القديم بمدينة وزان، بمناسبة زيارة السلطان لها، فوجئنا بانفجار قنبلة غير بعيد عن الخيمة، فتخلى مكوار عن عوده وجرني رفقة شقيقي إلى الخارج مهرولا"، يحكي العلمي العروسي، الذي أكد أنه بقي على اتصال بمكوار الذي صقل موهبته في العزف على العود.
واسترسل الفنان العلمي في النبش في ماضيه الموشوم بالمحن، التي كان أبرزها تعرضه للاختطاف من طرف البوليساريو، وتهريبه إلى الجزائر.
يقول العلمي العروسي متذكرا: "في أول احتفال بعيد العرش بمدينة السمارة غنيت "في كل خطوة سلامة" و"ناديني يا ملكي". بعد ذلك غادرت المدينة عبر طريق رأس الخنفري إلى طانطان، حيث التقيت بالفنانة الأمازيغية فاطمة الهوى وهي حافية القدمين بعد الاعتداء عليها وسرقتها، فساعدتها ورحلت معي عبر الحافلة إلى تزنيت، وهناك شاركنا معا، بمناسبة حلول السنة الميلادية، في إحياء حفل رفقة فرقة تيحيحت وبهجاوة مراكش".
أقرأ أيضاً :
ثلاث دول عربية تصل لعضوية مجلس اليونيسكو والسعودية تتطلع للتمثيل الدولي
حنين العلمي العروسي إلى مدينة السمارة دفعه إلى زيارتها في مرحلة موالية بعد أن عمل فترة بمحل بزنقة البريهي بالرباط في خياطة الأزياء العسكرية وأزياء الشرطة، غير أن حظه العاثر أسقطه في أيدي عناصر من البوليساريو بمنطقة رأس القنطرة سنة 1982، حيث تم اختطافه رفقة آخرين كانوا على متن حافلة، فتم تعذيبهم بشكل وحشي، قبل أن يتمكن من الفرار من قبضتهم في طريق ترحيله إلى الجزائر، حيث استطاع الوصول إلى الرشيدية، وتلك حكاية أخرى ذات شجون، يقول العلمي العروسي.
وبخصوص ذهابه إلى الجزائر، يروي قائلا: "تم تهريبي من طرف أشخاص مجهولين إلى الجزائر، وسلموني مقابل مكافأة مالية لإحدى العائلات على أساس أني ابن الفدائي الجزائري عبد الله المسعودي، الذي كان بالمغرب، وخلال مكوثي هناك سنحت لي الفرصة للغناء بإذاعة وهران، حيث أديت لأول مرة أغنيتي "زين يا زين الفعال" و"نظرة فيك جميلة"، وهما مقطوعتان رددهما من بعدي فنانون مغاربة آخرون".
ويضيف العلمي العروسي أنه بعد غنائه بإذاعة وهران طلب منه الضابط حمدوش إحياء حفل عرس زواجه الثاني، ومكنه من شقة كان يتدرب فيها مع جوق عسكري.
قصة تواجد الفنان العلمي العروسي بالجزائر انتهت بتوقيفه من طرف درك الجزائر واتهامه بالتجسس لصالح المغرب، بعد حدث ضربه على الوجه بقطعة زجاج لقاضي التحقيق بالمحكمة العسكرية بسيدي الهواري عزي إبراهيم، ابن أحد قواد خنيفرة، الذي فر إلى الجزائر بعد استقلال المغرب.
وقد وقع هذا الحادث، وفق ما رواه العلمي العروسي، حين كان القاضي العسكري عزي إبراهيم يحضر تدريبا على أغنية عيد الثورة الجزائرية، وكان هو مشاركا فيه، مضيفا أنه تمكن من التسلل إلى منزل القاضي العسكري،
الذي كان يسكن الشقة العلوية لشقته، وسرقة التسجيل الخاص بانعقاد مؤتمر للبوليساريو بالجزائر، حضره العقيد الليبي معمر القذافي، والرئيس الجزائري الهواري بومدين، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، ونائبا الرئيسين العراقي والسوري، قصد تهريب التسجيل إلى المغرب. لكن تم توقيفه، وهو في طريق عودته إلى المغرب قرب مغنية قبل تسليمه إلى الوكيل العام بمحكمة الجزائر وإيداعه سجن الكصبة بعد الحكم عليه بـ16 سجنا نافذا قبل تخفيض العقوبة إلى سنة ويوم واحد بتدخل من ابنة مدير السجن الذي كان يقبع فيه، والتي قال إنها تعاطفت مع قضيته لمعرفتها بقصة تواجده بالجزائر وبراءته من تهمة التجسس، مضيفا أن قضيته أعاد الترافع فيها محام دولي يدعى تلييكات.
"عندما عدت من الجزائر إلى فاس بعد الإفراج عني فقدت الذاكرة لمدة 14 سنة، قبل أن يشتري لي أحد الأشخاص عودا، ويقول لي إن العزف عليه سيعيد إلي ذاكرتي، وهذا ما حصل فعلا"، يقول أحمد العلمي العروسي، مثنيا على صهره الذي زوجه بابنته رغم مرضه.
كما تحدث العلمي العروسي عن ظروف عيشه الحالية بمدينة فاس، قائلا: "أعيش مع أبنائي في بيت مغطى بالقصدير اقتناه لي أحد المحسنين، بيت أستر فيه نفسي بعد أن أصلحته على مراحل، فالناس هنا بفاس يعرفون قصتي ويشفقون لحالي، والعزف على العود في الشارع هو مصدر رزقي، وأنا أحب الموسيقى لأنها تنسيني محني، كما أحب وطني، لأني لو أردت المال لبقيت في الجزائر".
قد يهمك ايضا:
موجة سخرية من إيمان العميري بعد إدعائها بأنها "المهدي المنتظر"