الرباط-الدار البيضاء اليوم
فنان مهووس بقضية، سكنته لسنوات، وباتت البوصلة الموجهة لكل أعماله، هو الفنان المنحدر من تحناوت مبارك البوحشيشي، وقضيته تمثل المجتمع المغربي للجسد الأسود .فإن كانت «المرآة» صامتة أو خرساء عند هذا الفنان التشكيلي، إلا أنها رغم صمتها فهي ما تفتأ تسائل كل متلق وزائر لمعارضه عن مدى تقبله للآخر، الذي ليس إلا ذاك المغربي الذي ولد ببشرة سوداء، ومدى قبوله بالاختلاف وإيمانه بالعيش المشترك ضمن مجتمع متعدد الهويات الثقافية واللغوية والإثنية .هوس يؤكده بوحشيشي، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، قائلا « أنا مهووس بقضية المغربي الأسود الذي سكن أعمالي، في ارتباط بي وبحياتي وبالبعد الجغرافي الذي نشأت فيه وعلاقاتي الاجتماعية «.
من خلال أعماله التشكيلية يقف هذا الفنان ليعلن عن نقاش مفتوح لماهية التعددية الإثنية بالمغرب، وإلى أي حد هناك اقتناع حقيقي ومبدئي بأحقية جميع المكونات الإثنية للمجتمع المغربي في أن تعلن وترسم وجودها بكل تمظهراته وتعبيراته العرقية والثقافية والاجتماعية.في لوحاته، التي يختار لها مساحات كبيرة يتمدد فيها بحرية ذاك الجسد الأسود مثقلا بالأحكام النمطية والتمثلات المتوارثة عن ماهية وكينونة هذا الجسد، يحاول البوحشيشي أن يمنح لهذه الذوات حياة أخرى أكثر حرية وإشراقا، من خلال خلفيات صفراء تجعل من حضور اللون الأسود طاغيا ومهيمنا على الفضاء بأكمله .هي مسيرة فنية متواصلة ومستشرفة للمستقبل، بأسئلة مفتوحة على المتلقي، تاركة له حرية الإجابة عنها عبر تفاعله المباشر مع اللوحات التي يعرضها عليه هذا الفنان الشاب القادم من الجنوب، والحامل معه لتفاعلات اجتماعية عاشها منذ طفولته، وعاينها في مراحل مختلفة من حياته، وفي إطلالته على كل ما كتبه المستشرقون عن المكون الأسود في النسيج الإثني المغربي، والذي أرسى بظلاله على تمثل المجتمع للجسد الأسود ولأصوله الإفريقية.
يقول البوحشيشي «في كل مرة أحاول أن أبحث عن مدخل آخر لأناقش به وأضع هذه الأطروحة كموضوع للتساؤل الاجتماعي حول الغنى الثقافي الإثني في أبعاده المختلفة، في معرضي الأخير «المرآة الصامتة» سؤال عن مدى اندماجنا ومدى تقبلنا للآخر، مجموعة لوحات تبرز الجسد الأسود بكل تقاسيمه، في محاولة لإظهار ما معنى أن تكون أسود اللون في مغرب اليوم».ولتكون الصورة كاملة وغير مجتزأة، اختار مبارك بوحشيشي أن يشتغل على تقنيات مختلفة، موثرا مادة المطاط، التي قد يكون من الغريب استعمالها، إلا أنه حولها إلى خامة تشكيلية، يحورها كيفما يشاء، ليرينا كيف يمكن توليد صور جديدة نكسر بها الصور النمطية عن الآخر.
الخلفيات الصفراء، عند هذا الفنان، ليست اختيارا دون معنى، بل هذا اللون عند بوحشيشي، لإثارة الانتباه إلى موضوع مسكوت عنه داخل المجتمع المغربي، ويبقى مغيبا عن النقاش العام، لون يجمع بين التنبيه والتحذير إلى وجود خطر يهدد لحمة المجتمع، في حال استفحلت الفوارق بين المكونات الإثنية واللغوية والثقافية للهوية الوطنية الجامعة، وحظ كل منها في الحضور.
ويرى البوحشيشي أن «الصور النمطية التي خلقها الاستعمار من خلال استغلاله لصورة الإفريقي الأسود في الإشهارات واستخدامه للون الأصفر كخلفية لتلك الإشهارات، دفعتني إلى تقديم هذا اللون بشكل جديد في سعي مني لتفكيك تلك الصور النمطية وخلق صور جديدة لحضور الجسد الأسود في تشكيل التعدد الإثني المغربي».هذا الفنان المهووس بقضية التعددية الإثنية للمغرب، يؤكد أنه في كل أعماله يروم إيصال «رسائل كثيرة، أن نعترف بإفريقيتنا، وبتنوعنا الإثني، وبغنى وقوة التنوع الذي يميزنا، إلى جانب عدم الانخراط في أي محاولة لتغييب أو إخفاء عنصر مهم من عناصر هويتنا الجماعية» .
سيرته الفنية كرسها لعرض تيمات تعكس رؤيته وتصوره للجسد الأسود وتمثله داخل المجتمع المغربي، ما يجعل منها صورة من سيرة ذاتية لا يمكن تجاهل فصولها.موضوعات استلهمها هذا الفنان الشاب من بيئته المحيطة، ليبصم عبر لوحاته، وتشكيلاته اللونية، وعبر رسوماته، وإنشاءاته عن إحدى التجارب التشكيلية الأكثر أهمية والأكثر معاصرة بالمغرب، فهو في رحلة بحث دائم عن تحقيق التناغم بين المساحات الفارغة والممتلئة، لتوفير فضاء أوسع لتشكيل توافق مع المتلقي بشأن الإشكالات والقضايا التي تسكنه، بدقة عالية، وحركية منسابة، يخلق هذا الفنان إطارات مفتوحة تغذي حس التأمل لدى متلقي أعماله.فلوحات البوحشيشي وأعماله تنبني على قضية محورية تتمثل في التعددية الإثنية داخل المجتمع المغربي، محلقا في عوالم غير اعتيادية وغير خاضعة لقواعد درس علم الاجتماع، عوالم تمنحه حرية أكثر، وتتيح له إدراك كينونة الآخر كتجربة وجودية مختلفة، لكن من حقها أن تكون .
قد يهمك أيضا: