العيون ـ هشام المدراوي
أنّ تجد نفسك مسكونًا برغبة دفينة ما انفكت تفرض عليك الانزياح إلى خوض الإشراق، آنئذ اعلم أنك في حضرة الهوس التشكيلي، وأن كيانك قد لبس مسوح عوالم الريشات وروحانية الأصباغ، طرقنا الحوزة فخرج فنان في عباءة صوفية. ذاك هو الفنان التشكيلي نور الدين أخروب. فناننًا نسمة صباح أنست شعاع شمس مشرقة فأثارت الدفء في كل مكان حلت به. من مدينة شامخة بالجنوب المغربي كانت الانطلاقة وبالتحديد من مدينة التحدي بوجدور ليجوب الصيت الآفاق من ألمانيا مرورًا ببلجيكا وصولاً إلى فرنسا. تلكم بعض المحطات التي رسمت معالم المسار المشرف لهذا الفنان الذي جعل من عشق المدينة التي ترعرع فيها منطلقًا للوحاته الفنية التي تجعل من محيطه موضوعًا لرسوماته التي تحيلك إلى عظمة هذا الفنان التشكيلي، الذي حمل لوائح الفن التشكيلي في الأقاليم الجنوبية. وبات يشكل الاستثناء من أبناء جيله، لما لا وهو الذي أبان منذ نعومة أظافره عن هوسه الشديد بالفن التشكيلي، وذلك من خلال الرسومات التي كان ينجزها والتي جعلت محيطه يتنبأ له بمستقبل واعد في هذا المجال. وما خابت كل تلك التكهنات التي تجد لنفسها سندًا اليوم، فاليوم اعتلى الفنان الكبير أهم المراتب في هذا الميدان، حاملاً مشعل الفن التشكيلي للجيل الرابع من الفنانين التشكيليين المغاربة عمومًا، والفنانين في الأقاليم الجنوبية خصوصًا. زد على ذلك أنه متعدد المواهب فقد تميز في الكتابة النثرية وشعر الزجل، كما أنه عضو نشيط في نادي الفن السابع للسينما في بوجدور. وبالرغم من كل ما وصل إليه هذا الرجل بفضل عصاميته إلا أنه لا زال يحس بأنه في بداية مشواره. حقًا إنه تواضع الفنان في أسمى تجلياته.
استطاع الفنان نور الدين خروب، أن يفجر كل تلك الطاقات التي من الله بها عليه منذ أن خرج إلى هذا العالم. فلم يكن يدرك ما كان يخبؤه له القدر، هو الذي كانت أولى محاولاته للرسم قد انطلقت باستعمال مجموعة من الوسائل البسيطة المتاحة له خلال بداياته الأولى، كالطبشور والفحم اللذين كان يستخدمهما للتعبير عما يخالجه في وجدناه من أحاسيس مرهفة. لم يكن يملك لوحات ليرسم عليها غير جدران بعض المنازل والحدائق التي جعل منها المتنفس الذي يرتمي في أحضانه في كل لحظة أصابته فيها حمى الإلهام. كان الرسم بالنسبة له الوسيلة الأقرب لإيصال كثير من الأمور التي كانت تدور في دواخله، قبل أن ينتقل في مرحلة لاحقة إلى استعمال القلم ثم الريشة التي تمكن من أن يرسم بها للمرة الأولى في حياته في إحدى مشاركاته في المسابقات المدرسية. لتصبح انطلاقة للعديد من المشاركات اللاحقة، سواء في المسابقات التي تنظمها المؤسسة التي كان يتابع دراسته فيها أو تلك التي تقام من لدن بعض الجمعيات المؤطرة لورشة الفنون التشكيلية للأطفال بين الفينة والأخرى.
وتعددت الأنشطة والملتقيات التي شارك فيها الفنان نور الدين خروب، والتي أبانت لكثير من الأطر و المشرفين عن علو كعب هذا الفنان الواعد الذي ولد وفي فمه ملعقة الفن، واصل فيما بعد رحلته مع الرسم التي كانت عبارة عن إرهاصات أولية عفوية وتلقائية. ما زالت ذكرياتها عالقة بذهنه إلى يومنا هذا. وتعود أولى محاولاته الجادة لتجسيد مواهبه على أرض الواقع حين هم إلى رسم مجسم يجسد مزهرية زينت بصورة فنية جميلة من الطبيعة، والتي لفتت الأنظار وتركت انطباعًا جميلاً، فأمسى كل من رآها يشجعه وينعته بالفنان أو الرسام الكبير فزاد بذلك حبه وشغفه بالرسم. فقد أيقن أن لديه من المؤهلات المهمة ما يكفل له أن يصنع أكثر من ذلك، وأن ما يلزمه فقط هو من يأخذ بيده ويدله على الطريق الصحيح الذي سيكون منطلقًا لبلوغه أبواب المجد في هذا الميدان الذي يشكو أصلاً من قلة مرتاديه.
ورغم الدعم الذي تلقاه من بعض المقربين منه والذين آمنوا بمواهبه إلا أن انطلاقته الحقيقية ستكون عقب ذلك الحدث التاريخي الذي ستشهده حياته ويقلب موازينها رأسًا على عقب، لاسيما وأنها ستضع مسيرته الفينة في طريقها الصحيح. التحق بمدرسة الفن لصقل الموهبة التي يتوفر عليها وذلك على أيدي أساتذة مقتدرين مشهود لهم بالكفاءة في الساحة الوطنية والدولية، والذين كان يسمع عنهم فقط أو يقرأ لهم في مجموعة من الصحف والجرائد، لأنه كان وبكل بساطة شغوفًا بمتابعة جديد نتاجهم على شاشة التلفاز. فشاءت الأقدار أن تتاح له الفرصة ليتتلمذ على أيديهم. فشكل هذا بالنسبة له دفعة قوية من أجل مواصلة مشواره الذي كان حينها في بداياته الأولى. خصوصًا أن تلك الثلة من الأساتذة الكبار لم يكونوا يبخلون عليه قط بالنصح والإرشاد فهم خبراء هذا في المجال، الشيء الذي جعله يستدرك مجموعة من الأخطاء التي كان يغفل عنها، ما أسهم في نهاية المطاف في تطور مستواه بشكل ملفت للنظر وهو اليوم لا ينكر فضلهم عليه مع أنه صار يعرض لوحاته جنبًا إلى جنب مع لوحاتهم. فمكانتهم منقوشة في قلبه بحبر من الامتنان والاعتراف بالجميل خصوصًا وأنه من الذين يؤمنون بمقولة من "علمني حرفًا صرت له عبدًا".
غير أنه وبالرغم من تعدد الأسماء التي كانت لها الفضل في صقل موهبته إلا أن هذا الفنان لا يمكنه أن ينسى مهما طال الزمن أو قصر اسما سيبقى منحوتًا في ذاكرته ومنقوشًا في قلبه إنه الأستاذ غطاس عبد الكريم، الذي يعتبره أبًا روحيًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهو من كان له الفضل في اختيار أخروب مع مجموعة من زملائه في إعداد اللوحات الخلفية لأعياد رسمية لمدة 3 أعوام. كما عمل على إكسابه كثيرًا من المهارات والخبرات الفنية المتعددة فضلاً عن حضوره الدائم ودعمه المعنوي الكبير له، حيث تجسد ذلك من خلال أول معرض تشكيلي قام بإنجازه في مدينة أغادير. ما شجعه على مواصلة مسيرته الفنية الفتية.
ومن اللحظات القوية في مساره التعليمي تلك التجربة الفريدة من نوعها التي خاضتها مدرسة الفنون الجميلة "التي كان يتابع دراسته فيها" للمرة الأولى في تاريخها حيث زاوجت بين الرسم والانصات لسيمفونية ذات إيقاعات حربية، الموسيقى والضوء الكثيف واللون الأسود. أمور كانت عنوانًا بارزًا لتلك التجربة المغمورة والفريدة التي قام بها أحد الأساتذة المغمورين والباحثين عن الجديد. فقد تمرد بحسه الإبداعي على المنهجية الأكاديمية برفقة طبيب أخصائي في علم النفس. ولتقييم هذه التجربة الفريدة ملأ نور الدين وزملاؤه استمارة تحوي مجموعة من الأسئلة.. إنها مفاجأة .. التجربة أثرت على نفسية وأعصاب الطلبة بشكل كبير ، حتى أن بعضهم أصيب بانهيار عصبي، فنقلت حالات إلى المستشفى. إلا أن ذلك كله لم يعكر صفو تلك التجربة خصوصا وأن الحصيلة كانت مشرفة جدُا بعد أن أنتج الطلبة أعمالا فنية رائعة تعكس الإبداع، أعمال أخذت موقعا متقدما في عدة معارض وملتقيات ولقيت مضامينها استحسان العديد.
وإذا كانت هناك قاعدة تقول بأن الفنان ابن بيئته، فإن هذه القاعدة تنطبق على نور الدين خروب،حيث عكست موضوعات لوحاته ما تزخر به أقاليمنا الجنوبية من جمال فضاءاتها الشاسعة. إن فيها صورا حية تبعث على عظيم الإعجاب كما أن حياة أهلها ورمالها الذهبية هي المنبع الخصب للإلهام.الشيء الذي أضفى على اللوحات حسا جماليا فائقا . فنجد أن الغالبية العظمى منها تهتم بموضوع الطبيعة البحرية. إيمانًا من طرف فناننا بأن من الأولويات الراهنة لكل شخص الإسهام انطلاقا من موقعه في الحفاظ على البيئة والاهتمام بها خصوصًا مع تنامي العديد من المخاطر التي باتت تهددها من كل صوب وحدب. ومن اللوحات التي أبدعها فناننا لوحة زيتية مرسومة على القماش موضوعها فتاة قروية جميلة ذات ملامح مغربية. إنها أول لوحة تشكيلية بعد عدة تجارب باختلاف تقنيات الرسم. امتنع عن بيعها لأنها تجسد أول عمل له بتقنية الرسم بالصباغة الزيتية ويرى فيها دائما البداية الفنية في مسيرته التشكيلية التي لا تقدر بالنسبة له بأي ثمن.
جعلت الإنتاجات الفنية المتعددة لفنان بوجدور الأول يلقى تنويها واحتراما كبيرين من لدن الفعاليات الفنية سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، خصوصًا وأنه كان أول مغربي وعربي وإفريقي يشارك في المعرض الدولي لألمانيا "أوبرا هاوس" في 2005. والذي اختير المشاركون فيه من مختلف ربوع العالم وفق معايير تقنية ومعينة. فهو من أهم المعارض الدولية التي يتم تنظيمها في هذا الإطار. كما أنه حاز على العديد من الجوائز من قبيل الجائزة الأولى للفنانين الشباب على الصعيد الوطني للفنون التشكيلية في 1994. فضلا عن معارض فردية وجماعية ببوجدور، العيون، أغادير والرباط وغيرها من المدن.