دمشق - جورج الشامي
أصدر اتحاد تنسيقيات الثورة السورية بياناً تفصيلياً عمّا توفر من معلومات عن المجازر التي ارتكبتها عناصر موالية لنظام الرئيس السوري بشار الأسد في بانياس والبيضة وقرى حولهما، فيما نقلت التنسيقيات شهادات ناجين من المجزرة بشأن من قام بها، وأسباب القيام بها.
وأوضح بيان التنسيقات أنه بعد فترة هدوء امتدت لمدة تقارب العامين ضمن اتفاق غير مكتوب على استمرار الهدوء في
مناطق التوتر الطائفي تحت بند الحفاظ على السلم الأهلي، بدأت قوات الأسد حملة على الأحياء الجنوبية لبانياس هي الأعنف في الساحل منذ بداية الثورة السورية.
وأضاف أنه في صبيحة اليوم الثاني من الشهر الجاري عادت قرية البيضة إلى واجهة الأحداث مع بدء توارد أنباء عن اشتباكات في البلدة التي تبعد عن بانياس قرابة 10 كيلومترات جنوباً، والتي اكتسبت شهرة خاصة بها كإحدى أهم المراحل في بداية الثورة، إذ شهدت الساحة نفسها التي أهان الشبيحة والأمن أبناء البيضة فيها واحدة من أبشع المجازر بحق السوريين، بعد تطويق قوات الأمن والشبيحة وقصف عشوائي لساعات عدة تبعها اقتحام للقرية الصغيرة ذات الـ 6000 آلاف نسمة.
وتشير تقديرات الناجين إلى اشتراك الآلاف من مقاتلي ما يسمى اللجان الشعبية وجيش المقاومة الوطنية ومعهم شباب من القرى العلوية المجاورة بالإضافة إلى أشخاص يتكلمون اللهجة اللبنانية.
وحسب البيان فإن القطع العسكرية المحيطة بالمنطقة والتابعة لجيش الأسد قامت بالقصف المدفعي، ومع الاقتحام بدأت حملة تطهير طائفي حيث قاموا بإعدامات ميدانية لكل من وجدوه من السكان "نساء وأطفال ورجال"، حيث تم تصفية الضحايا بطلقات في الرأس أو بالذبح أو بالضرب بالحجارة على الرأس حتى الموت، ومن ثَمَّ قاموا بإحراق معظم الجثث، وتظهر إحدى الصور لقطة لمحل "عزام بياسي" في قرية البيضة، وقد وُجد بداخله عشرات الجثث المتفحمة بعد إحراقها.
وقال أحد المشاركين في دفن شهداء مجزرة البيضة إنه تم دفن 200 شهيد دفعة واحدة في قبر جماعي واحد في وجود عصابات القتلة وإحدى قنوات إعلامهم، وتم توثيق 150 شهيداً من أبناء القرية وضيوفها من نازحين إليها ومزارعين فيها، مشيراً إلى 50 جثة لم يُعرف أصحابها لكثرة التشويه أو بسبب تفحمها، أو لأنه ضيف غير معروف الشخصية.
ويؤكد الشاهد أن مجمل الضحايا بين شهداء ومفقودين هم 700 مواطن من أهالي قرية البيضة، 400 منهم شهداء، و300 مفقودون، شاهد الناس بعضهم مقتولاً في الساحة، لكنهم لم يجدوا الجثامين التي اختفت دون دفن! لافتاً إلى أنه ما تزال عمليات البحث عن الشهداء مستمرة، إذ تعج الأحراش والوديان التي حاول الأهالي الاختباء فيها بالجثث المتفسخة.
وبحسب شاهد آخر فإن القصف الذي بدأ الساعة السابعة صباحاً من يوم الجمعة حتى الساعة العاشرة، استُخدِمت فيه قذائف مدفعية وصاروخ واحد والكثير من الرصاص من الرشاشات الخفيفة والثقيلة، وخلال هذا الوقت خرج من خرج من أهالي القرية عبر البساتين فاراً وبقي مئات عدة.
وأضاف أنه في الساعة العاشرة بدأ الهجوم من محور جبل العجمة ومحور قرية المراح المسيحية حيث تجمعوا فيها سابقا، مع الكثير من الرصاص بدأت المذبحة واستمرت حتى الساعة الثانية ظهراً حيث تمت إبادة سكان القرية المسلمين وتم اقتياد العشرات إلى قرية الزوبة حيث تم حرقهم أحياء، وتم إحراق البيوت والسيارات كافة وبشكل شامل.
ويقول الشاهد ح.أ.ن. "القصف لم يستهدف الحارة المسيحية لأن الانتشار كان عندهم، كما كان لديهم تعليمات بألا يقتربوا من المسيحية"، لكن ظل انتشار الغاصبين حتى المساء وعادوا إلى قراهم بعد فرض حظر على خروج المسيحيين من بيوتهم، بينما بقيت الجثث بالبيوت والطرقات ورائحة اللحم المحروق كانت تزكم الأنوف.
وكشف أن الشبيحة حفروا خندقاً في مقبرة الضيعة بعمق تقارب 10 أمتار وكدسوا فيها الجثث، ثم عاد رجال الأمن والشبيحة برفقة الهلال الأحمر في اليوم التالي لدفن مئات الجثث، موضحاً أنه بعد حفر الشبيحة مقبرة جماعية بواسطة حفارة ميكانيكية هُدم سور المقبرة ووضعوا الجثث فيها على طابقين، لتأتي بعد ذلك سيارات الإطفاء وتغسل ساحة القرية من الدماء حيث تم الإعدام الجماعي للعشرات، وتم منع حتى المسيحيين من الخروج من حارتهم باتجاه حارة المسلمين أو الاقتراب من ساحة البيضا.
وكشف شاهد عيان ثالث أن80 % من القرية ومنازلها دمرت والأراضي الزراعية معظمها أُحرق، وقُتل معظم المزارعين الذين يعملون بها "معظمهم من منطقة الغاب"، إضافة إلى حارتين كاملتين من حارات القرية حرقهما الشبيحة تماماً بعد قتل كل من وجد فيهما.
في حين نقلت إحدى الشاهدات واحداً من أفظع المشاهد في المجزرة، فقالت "أحرقوا خالي وأبناءه جميعاً أمامي أحرقوهم وهم أحياء".
وأوضح البيان أن قصفاً متقطعاً تعرضت له منطقة بطرايا في مدينة بانياس الخميس الماضي أدى إلى إصابة مسجد التقوى وعدد من الأبنية المجاورة، ولم تعرف حصيلة هذا القصف والاقتحام الذي تلاه حتى الآن بسبب استمرار احتلال المنطقة من عصابات الأمن، وتم تطويق المدينة تماماً ومنع الدخول أو الخروج منها وحتى التنقل ضمن أحيائها، بعد انتشار القناصة بشكل.
وضمن السياق نفسه نقل موقع "الأورينت" شهادات لناجين من المجزرة، وحسب، خلود، النازحة حالياً على أتستراد بانياس طرطوس الدولي أن البيضة خاوية تماماً من سكانها وما زالت عناصر الشبيحة تقوم بعمليات النهب فيها.
وقالت، خلود، إنها لا تتذكر وجوه القتلة بقدر ما تتذكر بضعة شبان تم تجميعهم وافتتاح المجزرة بحرقهم أحياء ومن ثم تم تقسيم القرية إلى ثلاث مناطق مجزرية، حيث الحي الأول والذي يسمى الحارة التحتانية وحارة المسجد في مدخل البيضا، حيث تمت المجازر، بينما كانت الحارة الداخلية أقل ضرراً، حيث اقتصرت الأذية فيها على حرق البيوت والتهجير والخطف والاعتقال.
وروت، خلود، أن عمليات القتل تمت في الشوارع وليس فقط في الساحة العامة حيث تم تجميع الشبان والأطفال من مجموعة من البيوت وقتلهم بالسكاكين والحجارة دون الحاجة غالباً لاستخدام الرصاص، حيث تم تغطية عيونهم أو ربط أكفهم ثم الرسم على أجسادهم بالسكاكين حتى الموت، بينما تم اقتياد البعض وتفتيتهم في قريتي المورد والزوبة.
وقال، خالد، من سكان راس النبع "كنا خائفين نحاول أن نتوقع أن ما يجري سيقتصر فقط على البيضة، لم نكن نستطيع أن نتخيل مستقبلنا القريب إلا أن البعض امتلك الجرأة للهروب عبر البساتين حيث كانت تنتظره قناصة الأتستراد وجسر القوز".
من ناحيته قال زين ابن البيضة "لم تعد تَهُمّ الحجج "كان بإمكانهم أن يتهموننا بأننا حين ننظر إليهم لا نخشى من وجوههم مثلاً، أو أننا لا نشرب المتة صباح كل يوم رغم أن أغلبنا يشربونها، لم يذكر أحد منهم شتيمة تتضمن أن شباب من البيضة اشتبكوا مع سيارة أمنية، أغلبهم لا يعرف واقعة هذا الاشتباك الذي جعل منه النظام مبرراً لإبادة مدينة، مع العلم أن الاشتباك السابق للمجزرة بأيام كان بسيطاً للغاية وهو ضد سيارة تعتقل شباباً من البيضا".
وعاشت البيضة أشهراً من الهدوء التام فصلت بين مجزرتين الأولى مطلع نيسان/أبريل 2011 وهي بسيطة جداً مقارنة بالثانية منذ أيام، ولم تشهد البيضة خلال العامين أي خلل أمني وبخاصة وأن أغلب ناشطيها هاجروا أو نزحوا خارج سورية أو إلى مناطق الصراع الأكثر أمناً.
ويروي أحمد من سكان رأس النبع في بانياس حيث يرى أن التحريض الطائفي لم يتوقف خلال عامين وكان الشعار الواضح هو ضرورة إزالة المدينة وقراها عن الخارطة وقتل أبنائها كافة الصغير قبل الكبير وهو ما ظهر واقعياً خلال الأيام الأخيرة.
وبدأ حصار البيضة من قبل مجموعة هائلة من الشبيحة المدنيين "جيش الدفاع الوطني" من أبناء القرى المجاورة لبانياس وهنا نخص "العصيبة - بارمايا - سقبلة - حريصون - المروج - وأحياء بانياس العلوية القصور والقوز".
وكانت مُهمِّة الجيش المتمركز على الأوتسراد الدولي بانياس – طرطوس، وفي قلعة المرقب والقرى المجاورة وكتيبة الزوبة هو القصف المركز تمهيداً للاقتحام وما أن تم الاقتحام حتى بدأ اعتقال الذكور من الأعمار كافة بمن فيهم الأطفال والشيوخ وتم اقتياد بعضهم إلى قرى قريبة من البيضا لتصفيتهم هناك بينما تمت تصفية الغالبية في شوارع البيضا وساحتها الرئيسية.
وحسب، زين، الذبح كان فوضوياً دون أية مساءلة أو تحقيق أو حتى توجيه تهمة، بساطة مطلقة في التعامل مع ابن البيضة، ربط أو تغطية للرأس ومن ثم اللهو بضرب السكاكين أو قطع الأعناق أو تدمير الجماجم بالأحجار، وترك الجثث في الشوارع ليتسلى آخرون إما بإحراقها أو تجميعها، أو تفريقها بين البيوت للترهيب، مع العلم أن هناك أعداداً هائلة لم توثق من المخطوفين أو القتلى ولا بد من مقابر جماعية يتم اكتشافها قريباً، فأسماء القتلى الموثقين يفوق 300 بينما من شوهدوا يُقتَادون إلى الموت أو يُقتَلون ويُعَبَّؤون بسيارات هم أكثر من 700 كما أن حالة النزوح الجماعية إلى طرطوس وبانياس منعت من إمكانية التوثيق.
وأضاف "لِنَقُل أن عقوبة البيضا إثر مجابهة سيارة أمنية هي مجزرة مروعة حيث لم يتمالك النظام نفسه، ولكن ما علاقة بانياس والقرى السنية حصراً إذاً، فما أن انتهت السكاكين من عملها في البيضا حتى توجهت إلى رأس النبع في بانياس، حيث لم يبدِ السكان أي ردة فعل سابقة بسبب التخوف من استهدافهم وهو ما حصل بالفعل، فمن لم ينشغل باستكمال عنفه الطائفي في البيضا اتجه إلى بانياس، التي كان تمهيد الاقتحام فيها قد انتهى حيث وجهت المدافع مقذوفاتها إلى "رأس النبع - بطرايا - رأس الريفة - الباصية - سهم البحر" بينما تولى شبيحة القوز القنص من على الجسر خوفاً من فرار ناجين، وكانت النتيجة عملاً إجرامياً كما البيضا ذهب ضحيته ما يقارب 300 شهيد أغلبهم سقطوا بالسلاح الأبيض.
ونزح معظم الناجين من البيضا إلى مدينة طرطوس متجاوزين عشرات حواجز اللجان الشعبية "جيش الدفاع الوطني حيث متوسط الأعمار 19 عاماً" وتكفلت الحواجز باعتقال الرجال وشتم النساء بتهمة "الطائفية"، ولم يُسمح لهم بدخول طرطوس، فقط من اتجه نازحاً إلى بانياس استطاع الدخول لتستقبله المجزرة الجديدة أو النزوح الثاني.
"ليس لدينا سلاح"... جملة رددها معظم النازحين، وهو ما بدا منطقياً حيث لا قتلى من القتلة ومن حيث المنطق لم تكن هناك مقاومة وكان الدخول إلى البيوت سهلاً، كما أن توثيق هذه الجرائم كان صعباً، على اعتبار أن الحرق ألغى كل الصور التي من الممكن أن تكون شاهداً على الذبح ضمن المنازل باستثناء تلك الخزانات الخشبية التي خبأت فيها الأمهات أطفالهن فأصبحت بقدرة الجريمة توابيت محروقة فيها رماد جثث صغيرة.
الجثث حتى الآن ما زالت أغلبها في الشوارع، حيث من يقدر على دفنها إما هو مختبئ بعيداً عن سكين الذبح أو نازح أو فرد من أفراد شوارع الموتى.
لم يستطع غالبية القتلة المشاركة في حلقات الدبكة والتأييد التي كانت تجري في حي القصور وعلى الطرقات المؤدية لبانياس حيث كانوا يستكملون مهامهم الوطنية، إلا أن السيارات التي اصطفت بالمئات على طريق بانياس طرطوس، وبانياس اللاذقية، وبانياس القدموس، وجدت أن بانياس اكتفت بأعداد القتلى الذين نزلوا إليها وبالتالي كانوا قادرين على الاحتفال بالنصر كل من مكانه وبخاصة ساحة السنتر الشهيرة وحي القصور، طبعاً في القرى أيضاً عقدت حلقات الدبكة بانتظار "مجاهدي" الأسد وهم على قناعة تامة بأنهم سيعودون سالمين على اعتبار أن معركتهم في بانياس وليست في إدلب أو دير الزور أو ريف دمشق حيث تختلف المعادلة.
ويقول زين "رأيت بأم عيني أكثر من 25 شخصاً مقطعين قد كدسوا فوق بعضهم في دكان استعدادا لحرقهم، ركضت بين الجثث، رأس على يميني، وطفل محترق على يساري".
لم يسمع زين أنينهم أبداً، كان صوت احتفالية ريف بانياس بالانتصار طاغياً على صمت المقابر العائمة فوق الشوارع حتى على صوت المدفعية، لا شيء يعلو فوق نشوة الانتصار والنجاح في تنفيذ عملية قتل منظم وتطهير عرقي طائفي واضح المعالم بوقاحة، انتصر الموت مبدئياً على جنان المتوسط وصيادي الأسماك، ويبقى للتاريخ أن يكتب الهزيمة وللبحر أن ينصف ساحله.