بكين ـ وكالات
وصلنا مطار الدوحة، آتين من بيروت، ومكملين الرحلة إلى الصين! كان علينا الانتظار سبع ساعات، حتى يحين موعد رحلتنا. بين التسوّق وتناول الطعام، ومراقبة القادمين والمسافرين من جنسيات مختلفة وعرقيّات متعدّدة، مضى الوقت، حتى أصبحت الساعة الواحدة إلا عشرين دقيقة: علينا الوقوف أمام البوابة الرقم 202 لنسلّم بطاقة سفرنا إلى الموظفين وننتقل إلى قاعة الانتظار حيث ستقلّنا الحافلة إلى الطائرة. ضجّت القاعة بالصينيين. صينيّون فقط! وأخذ العدد يتزايد ويتزايد، حتى أصبح عدد الواقفين أضعاف أضعاف الجالسين. اعتقدت للوهلة الأولى أنّنا سنذهب في رحلتين! وصلت الحافلة، وطبعاً لم تتّسع لنا، فوقف الباقون عند باب الخروج بانتظار الحافلة الثانية. لمّا دخلنا الطائرة، تأكّدت أنّ الرحلة واحدة، وبالتحديد إلى الصين، إلى أرض المليار والثلاثمئة مليون نسمة. فالطائرة تختلف شكلاً ومضموناً عن تلك التي أقلّتنا من بيروت إلى الدوحة. هذه الأخيرة كبيرة، بل ضخمة! تتألّف من أربعة أقســام، وكل قســـم ينـــقسم على نفسه إلى ثلاثة أقسام، يفصل بينها ممرّان رئيسَان. بدأت الزحمة من الطائرة. وصلنا مطار « شانغاي». اكتشفنا أنّنا رأينا الصينيين في بلداننا، لكننا بالتأكيد لم نرَ ابتسامتهم تلك، لدى وصولهم إلى احد المطارات الصينيّة، حيث يبدأون يتصرّفون على طبيعتهم، وبفرحة كبيرة: ينقلون الحقائب، يعبرون الممرّات، يدخلون أبواباً ويخرجون من أخرى... كمَن يقول: أنا في الصين! أنا هنا الآن! أهلاً بكم في شانغاي. كان وقت الانتظار في مطار شانغاي صعباً جداً! بخاصّة مع عدم وجود لغة تواصل مشتَرَكة بيننا، من اللغات التي نعرفها: العربية، الفرنسية، الإنكليزية! لا أمل، ولا سبيل إلى التواصل إلا بالإشارات. ولم يكن من سبيل إلى شراء أي سلعة سوى بالـ «ين» الصيني، ولم نكُن صرّفنا المال بعد! فاضطررنا إلى قضاء نحو ست ساعات من دون أن نتمكّن من شراء طعام أو ماء أو حتى الاستراحة في أحد المقاهي لاحتساء فنجان قهوة. وأخيراً حان وقت السفر إلى مقاطعة «فوجيان» فتدافع الصينيّون من جديد. في مطار مقاطعة «فوجيان» كان في انتظارنا شاب وشابة يحملان لافتة مكتوب عليها: «الوفد العربي». ولمّا وصلنا نقلونا إلى حافلة حيث وجدنا أنّ بعض المجموعات كانت وصلت من تونس، العراق، عُمان، والأردن. وعلينا انتظار القادمين من موريتانيا وجزر القمر، وكان مرّ على انطلاقنا من بيروت زهاء العشرين ساعة، قضيناها إما في الجو، وإما متسكّعين في مطارات بيروت والدوحة وشانغاي وصولاً إلى فوجيان، لنعود وننتظر. في الأيام التالية، بدأت الاجتماعات الممتعة مع الزملاء العرب والصينيين، في ما يتعلّق بقضيّة الشـــباب: الــثقافة، سوق العمل والآفاق المفــتوحة. كنا نتلاقى أثناء وجبات الطعام، وأيضاً لدى التجوّل في الأسواق يوم الاستراحة، ناهيك عن حضور المحاضرات بشقّـــيها: الثقافي والعملي، والمتعلقة بالشباب وكيفيّة خلق فرص عمل جيدة، وتشــــجيع المبادرة الفردية لتأسيس مشاريع جديدة، وإعلاء درجة الصدقيّة الشخصيّة لدى الشباب في تعاطيهم مع الدولة. بتنا ننتظر وصول الجميع كي نبدأ غداءنا أو عشاءنا، أو لعلك تجد من نقل لك حقيبتك ووضعها بجانبه، لتتناولا الغداء معاً. أجواء جميلة بل رائعة! كنّا ننقسم إلى مجموعات للذهاب إلى التسوّق، ونستدلّ إلى المحال المقبولة الأسعار، أو إلى الحدائق ذات الطبيعة الجميلة من أزهار وأشجار وماء... رفقة ممتعة، امتزج الجزء بالكلّ، وأصبح كلاًّ متكاملاً. كانت المجموعة الصينيّة التي ترافقنا تتألّف من شبّان وشابات في العشرين من عمرهم، يعملون معاً وينظّمون كلّ شيء بأسلوب متقَن وبسيط. المهمات محدّدة وكذلك المسؤوليّات. يدرسون في الجامعات، ويعمل بعضهم في بيع خطوط الهاتف، يضعون البطاقات في حقائبهم، لتشتري منهم ساعة تحتاج. هم يُساعدونك في شراء ما يلزمك، أو يحضرونه لك! والأهم أنهم يحاولون مساعدتك في ما تقوم به ويقدّمون لك ما تحتاجه باندفاع مُرفَق بابتسامة لطيفة. لكلّ بلد خصوصيّة، وقد تكون خصوصيّة الصين، في مواطنيها المنتشرين على الطرق وفي المتاجر والمطاعم. تكاد لا ترى سوى الصينيين: هم السيّاح، وهم المواطنون! ميزة خاصّة. وهذا أمر طبيعي نسبة لاكتفائهم الذاتي بشريّاً. الطعام له بعض الخصوصيّة أيضاً، بخاصّة الأسماك، وطرائق تحضيرها المتعدّدة. وكذلك السوق القديم في مدينة فوجو، المصنوع من الخشب، ومعبد بودا، حيث يمارس الصينيّون طقوسهم من تقديم الطعام، إلى السجود، وحرق الأوراق الصفر، رمزاً للمال وللتكفير عن الذنوب. المعبد كبير، يتألّف من أقسام عدّة، تفصل بينها حدائق وبحيرة ماء. المواطنون الصينيون طيّبون ومضيافون، لمسنا لديهم روح «النكتة» وخفّة الدم. والأهم، العمل المتواصِل. الجميع يعمل، وجميعهم صينيّون، بدءاً من صاحب المؤسّسة، مالك رأس المال، مروراً بالإداريين منهم والموظفين العاديين، حتى عمال التنظيف. تشعر أنّك في قلب وطن ينتمي إليه جميع من يحمل جنسيّته. فتكاد لا تصادف، أو أنّك لا تصادِف عاملاً أجنبيّاً واحداً. وطن واحد، شعب واحد، في غنى عن ملتقى الجنسيّات، يحبّون لغتهم، بالكاد تجد مَن يتحدّث غير الصينية. يحترمون عُملتهم، ولا يتعاملون بسواها. الطرق واسعة، حديثة الهندسة، وكذلك البنايات العالية، وتضاهي المواصفات العالميّة، الأمر الذي يفقد بعض المدن شيئاً من خصوصيّتها. وإضافة إلى ذلك، تأسف أن ترى ما يسمّونه «الضباب»، يغطّي المدن ويحجب الشمس، إلا أنّه، في الواقع، دخان المصانع، الذي يلوّث الجوّ ويمنع الرؤية. وانتبه الصينيّون، في الآونة الأخيرة، إلى الخطر الذي تسبّبه ثورتهم الصناعيّة، والضرر الذي تلحقه بالبيئة من ناحية، أو لناحية استخدام اليد العاملة الشابة، نظراً إلى كثرة الطلب على البضائع، واضطرار المصانع إلى تكثيف الإنتاج، وبالتالي الحاجة إلى يد عاملة أكثر. يترك الطلاّب المدارس، خصّوصاً أبناء الأسَر الفقيرة منهم، بعد التعليم الأساسي، أي في سنّ التاسعة، ما يُنذِر بتردّي الحال الثقافية، بعد تردّي الطبيعة البيئيّة. في مقابلاتنا مع بعض الشباب، لسؤالهم عن حياتهم الثقافيّة واهتماماتهم الأدبيّة، أخبرونا أنّهم يدرسون في المدارس وكذلك في الجامعات، لكنّهم اكتشفوا أنّ ثمّة فجوة نسبيّة بين ما يدرسونه في الكتب، وما يمارسونه في المجتمع. فالمجتمع حيويّ وفعّال أكثر. لذلك، تكثر المطالعات في المدارس، وخلال التخصّص في الجامعة، أمّا بعد التخرّج فإنّ المطالعة والقراءات تخفّ بنسبة كبيرة. وقد تحدّث شاب آخَر عن مدى اهتمام الشباب باعتماد وسائل التكنولوجيا الحديثة، والبحث عن الأجوبة في الإنترنت، لكونها تسهّل عليهم الكثير من الأمور، وتجيب بسرعة كبيرة عن معظم أسئلتهم. وبذلك فإنّ الهدف من الدراسة في المدارس والجامعات، هو الحصول على الوظائف في الهيئات الحكوميّة، فقط. ويختلف، هنا، سكان شرق الصين وجنوبها الذين يحبّون التجارة، حيث مقياس النجاح عندهم لا يعتمد على المكانة الاجتماعيّة والوظائف وإنما على كسب «المال»، عن أهل الغرب والشمال الذين يسعون إلى الحصول على الوظائف في الهيئات الإداريّة. من ناحية أخرى، فإنّ أراضي بعض المقاطعات الجنوبيّة، كمقاطعة فوجيان، غير صالحة للزراعة، لذلك كان لا بدّ من إيجاد وسيلة للعيش، فلجأ أهلها إلى التجارة. تاريخياً، وقبل هذا التحوّل، كان الصينيّون، يهتمون بالزراعة أكثر من التجارة، لأنّ عدد السكان ضخم، ولا بدّ من أن تكون الزراعة هي القاعدة. وكان المجتمع الصيني ينظر إلى التجار، على أنهم من الطبقة الأدنى في المجتمع، مهما بلغت ثروتهم وكانت أموالهم وفيرة، وتُفرَض عليهم الخدمة العسكريّة. أما حاملو الشهادات وأصحاب الاختصاص، فَهُم أفراد الطبقة الاجتماعيّة العليا، لهُم امتيازات خاصّة، كما يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكريّة. تقول الرواية إنّ المواطنين الصينيّين عندما يلتقون اليوم، يلقون التحية بعبارة «مرحبا» أو «أهلاً». أما في الفترة التي سبقت الإصلاحات أي منذ نحو ثلاثين سنة، فكانت التحية سؤالاً: هل تناولت طعامك؟ وذلك جراء ما كان يعاني الشعب الصيني من فقر، وحياة معيشيّة ضاغطة وصعبة. فكان همّه الأول هو الحصول على لقمة العيش. بعد الإصلاح، بدأت الأحوال تتحسّن تدريجاً. ومن المفيد معرفته هو أنّ الأحرف الصينيّة، أو ما يُعرَف بالرموز، ليست أحرفاً مجرّدة بل تقوم على المعنى أكثر من الشكل. فكلمة «تناغم» مثلاً، مؤلّفة من جزءين: الجزء الأول يشير إلى أنّ كل إنسان يستطيع أن يحصل على طعام، والجزء الثاني أنّ الجميع يستطيعون أن يعبّروا عن آرائهم، وبين تلبية حاجة الجسد والفكر يحدث التناغم. وكذلك كلمة «جيّد» أو «ممتاز»، تتألّف بدورها من جزءين : الأول فتاة والثاني شاب، يؤسّسان عائلة صالحة، وبذلك يكون المجتمع في حالة جيّدة. أمّا كلمة «مؤسّسة» فتُرسَم بطريقة لافتة: الأعلى والأسفل. يرمز قسمها الأعلى إلى الإنسان، والأسفل إلى القاعدة، أي أنّ قاعدة المؤسّسة لا بدّ أن تقوم على عقل الإنسان وفكره، والأمثلة كثيرة... فلسفة تجعل الكلمات تتخطّى الأحرف، لتتحوّل إلى نمط تفكير، وأسلوب حياة. هكذا، بعد هذا الاتجاه نحو التجارة، أصبح للأسئلة الثقافيّة وجه آخر: شرح لنا أحد الشبان، كيف تحوّلَت مقاطعة فوجيان من مقاطعة فقيرة إلى مقاطعة غنيّة، بفعل التجارة، فخفّ ضغط البطالة. ويُخبِر آخَر عن تجربته الشخصيّة وانتقاله من الجامعة، ورفضه أن يعمل موظفاً في أحد قطاعات الدولة، بل استثمر أرضاً قاحلة وحوّلها إلى أرض زراعيّة، يزرع فيها الشاي على أنواعه وكذلك الزنجبيل، والبطاطا الحلوة. وشرح لنا شاب ثالث عن شركته «الصغيرة» التي تحاول استثمار أموال الناس، وتوجيه استثمارهم بما يتوافق واقتصاد السوق. هذه هي الظاهرة الثقافية الصينيّة الحديثة: الشباب يكثّفون القراءات في مجال تخصّصهم، أما الروايات و»القصص الجميلة»، فلم تعُد تلقَ رواجاً كالسابق. وتُعتبر الكاتبة الصينية تيه نينغ، من الكتّاب الأكثر شعبيّة لدى الشباب، وهي أوّل كاتبة من الجنس اللطيف في رئاسة جمعية الكتاب الصينيين. أمّا عن مو يان، الذي نال جائزة نوبل لهذا العام، محققاً الخطوة الصينية الأولى في حقل الجائزة العالمية، فقال معظم مَن التقيناهم، أنّ هذا الكاتب لم يكن معروفاً أو مشهوراً قبل نيله الجائزة، «أما إذا سألتنا عن شهرته بعد الجائزة فإنّ الأمر مختلف تماماً». تختلف الحال بين ما قبل الجائزة وما بعدها. مو يان بدأ يحظى بالشعبيّة بعد نيله جائزة نوبل، وهو روائي، يكتب القصص أيضاً، وتتميّز رواياته بالأسلوب «الساحر» والواقعيّة المُدهِشة، كما وصفته إحدى الطالبات. تحتل الكتب الصينيّة، وتحديداً الروايات اهتماماً لدى الصينيّين وبعضهم من الشباب. ثمّ تأتي الكتب المترجَمَة عن الكتب الغربية لتحل الكتب العربية في الدرجة الثالثة، ويعود ذلك، كما تقول الشابة الصينية، إلى عدم اهتمام الطرفين، العربي والصيني، بنشر ثقافة كل منهما في مجتمع الآخر. وفاجأنا أحد الشبان، من الذين التقيناهم، بأنّه لا يقرأ الكتب، بل يفضّل أن يشاهد التلفاز:» أحاول أن أقرأ كتباً عملية كالعلوم الإدارية، لكنني أكتفي بشراء الكتب ووضعها في المنزل، ولكن، مع الأسف، لا وقت لقراءتها». من الطبيعي أنّ لا وقت للقراءة بعد أن احتلّت أجهزة الـ I Phone و الـ I Pad المشــهد العام في كلّ الأماكن الخاصّة والعامة على السواء، فلم تعد الروايات، القصص القصيرة، والقصائد هي رفيقة درب الشبان والشابات في الباصات والحدائق العامة والنوادي والمنازل. فهل هذا هو الواقع، أم أنّ للــثقافة دروباً أخرى، أكثر حداثة، يسلكها الشبان على طريقتهم وبما يتوافق مع عصرهم؟.