الرباط - الدار البيضاء
ضرر بالغ لحق العديد من الصناعات التي اضطُرّت إلى إسدال ستارها لمدّة تزيد عن نصف سنة، بسبب تدابير الوقاية التي فرضها المغرب للحدّ من انتشار جائحة "كورونا"، وهو ما انعكس مباشرة على المشتغلين بهذه القطاعات الذين وجدوا أنفسهم دون مدخول إلّا مِن دعم استثنائي متواضع. والمشتغلون بقطاع الثقافة والإبداع لَم يكونوا استثناء.
شهور "الطّوارئ" هذه عرفت تضامنا مبدئيا في بدايتها، لكنّ طولها قاد كثيرا من الفنانين إلى الاحتجاج رقميّا، ودفع بعضهم إلى الاحتجاج أمام وزارة الثقافة على "التغييب" من الدّعم الاستثنائي الذي خصّصته للمشاريع الفنية، خاصة بعدما استأنف القطاع عمله في دول في المحيطين العربي والأوروبي. وهو ما تفاعل معه وزير الثقافة بالقول إنّ "دعم المشاريع الفنية يظلّ مجهودا قابلا للتّجويد والتّطوير، لكن لا يمكنه القيام مقام تعميم التّغطية الاجتماعية".
ورغم مبادرات الدّعم، والتنسيق الحكومي مع فاعلين من مجال الصناعات الثقافية والإبداعية لإيجاد حلول لحماية القطاع، يبقى استئناف العمل رهينا بقرار يتجاوز وزارة الثقافة والشباب والرياضة، والحكومة نفسها، إلى الدولة وأولويّات استراتيجيّتها في تدبير الجائحة.
ومع أنّ المطلب الأساسيّ هو فتح قاعات العرض واستئناف العمل، مع احترام تدابير الوقاية والسلامة الصحية، إلا أنّ فترة الركود الإجباريّ التي مرّ منها قطاع الصناعات الثقافية والإبداعيّة، الذي يعاني أصلا من صعوبات جمّة وضعف في التّنظيم وهشاشة في النّموذج الاقتصادي، تنذر بإضعافه، وهو ما يظهر في حالات الإغلاق النهائي لقاعاتِ عرض ودور نشر، وتغيير مهنيّين في قطاع الفنون حِرَفَهم، أو بيع بعضهم آلاته "من أجل الخبز وحده".
ويتخوّف مهنيّون، في حديث مع هسبريس، مِن أنّ هذا الوضع الصّعب ستليه فصول أخرى غاية في الصعوبة، عند غلق مزيد من المرافق الفنية والثّقافية، ممّا سيخلق واقعا لن يمكن للمشهد الثقافي والفني المغربيّ التعافي منه.
"وهن على وهن"
في شهر يونيو الماضي، أفادت فدراليّة الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة التابعة للاتحاد العامّ لمقاولات المغرب بأنّ ملياري درهم هو قدر تأثير جائحة "كورونا" على هذه الصناعات، ودعت إلى "إجراءات استعجالية لإنقاذ 100 ألف منصب شغل مهدّد"، في القطاع بالمغرب بسبب الأزمة الرّاهنة.
وليس الشّلل الذي أصاب قطاع الثقافة والفنون بفعل جائحة "كورونا"، الإشكال الوحيد الذي يواجهه القطاع، بل حتى قبل الجائحة كانت تُطرَح إشكالات الهشاشة، وعدم براح مرحلة محاولة التّأسيس بعد، التي كانت آخر محطّاتها مناظرة الصناعات الثقافية والإبداعية بالرباط التي نُظِّمَت في يوليوز من السنة الماضية (2019)، بشراكة بين فدرالية الصناعات الثقافية والإبداعية ووزارة "الثقافة والاتصال" (سابقا)، دون أن تجد توصياتها الطريق للتّحوّل إلى سياسة عموميّة، لإشكالات من بينها التغييرات المتتالية التي شهدها رأس وزارة الثقافة
نقاش التّأسيس وضرورته هذا يحضر أيضا في المؤسسات الدستورية؛ فقد سبق أن أوصى تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعيّ والبيئيّ بـ"ضرورة انتهاج سياسة عموميّة جديدة كفيلة بجعل اقتصاديّات الثقافة دعامة حقيقيّة للتّنمية الاقتصاديّة في بلادنا"، ودعا إلى "التّأسيس لاستراتيجيّة وطنيّة حول الثقافة والإبداع، لجعلهما في قلب المشروع المُجتمعيّ والتّنمويّ المغربيّ، وإدماجهما في كلّ السياسات العموميّة"، مسجلا وجود "حركيّة خاصّة" شهدتها بداية الألفية الثالثة على صعيد الأنشطة الفنية والثقافية في المغرب، مع بدء فعاليّات جديدة، شابّة في غالبيَّتِها، تفرض ذاتَها، بطرق مختلفة، في ميادين الإبداع، والإنتاج، والتوزيع، والتكوين، والاستهلاك، والتواصل، وهو ما يقابله "تأخّر ملحوظ في بناء المنشآت والتّجهيزات الثقافية الكلاسيكيّة".
وفي سياق كانت فيه أبواب المشاريع الثقافية والفنية ما تزال مفتوحة، سجّل تقرير المجلس أنّ هذه المقاولات "هشّة، صغيرة، وتشتغل في سياق احترافيّة محدودة، ممّا يجعلُها مهدّدة في وجودِها"، وتحدّث عن مواجهة العاملين بها مخاطر عدّة، منها "الطبيعة غير القارة للعمل في مهن الفنّ والثّقافة"، و"خطر تعرّض المقاولات المستثمِرَة في هذه المجالات للإفلاس".
هذه الإشكالات دفعت كونفدرالية الهيئات الفنية والثقافية الاحترافية إلى فتح عريضة في شهر ماي الماضي، تعبّر عن "القلق البالغ" من وضع قطاع الثقافة والفنون خلال الحَجر والطّوارئ الصحية، وحتى قبله بسبب "غياب رؤية استراتيجية لقطاع الثّقافة والفنّ بالمغرب، مع تعدُّد وتشَتُّت الجهات الفاعِلَة، وتواضع الميزانيات المخصّصة لقطاع الثّقافة، التي لا تتجاوَز 0.25 في المائة من ميزانية الدّولة، والتّوزيع غير المتكافئ للبنية التحتية الثقافية، وهشاشة المناخ الثقافي الفني"، ممّا يُثني "المستَثمرين المحتَمَلين الهشّين اقتصاديا واجتماعيا عن الانخراط في مشاريع طويلة الأجَل، ويحدّ من المشارَكَة النّشِطَة في الثّقافة؛ ما يؤَخِّرُ ظهور صناعة ثقافية وإبداعية وطنيّة حقيقية".
هذا فضلا عن إشكالات سجّلها تقرير لمعهد بروموثيوس للديمقراطية وحقوق الإنسان صدر سنة 2015 حول "السياسات العموميّة الثّقافيّة في المغرب"، من قبيل أنّ قطاعات غنيّة من حيث المعرفة، مثل الثقافة، والإعلام والاتصال، والتربية والتعليم، فقيرة من حيث الطّاقة، في حين إنّ "قطاعا فقيرا من حيث المعرفة، لكنّه غنيّ مِن حيث الطّاقة، هو قطاع الدّاخليّة"؛ بسبب رهان ظلّ قائما على "تحييد كلّ ما هو ثقافيّ، وعزله عن باقي مجالات الفعل الاجتماعيّ والسّياسيّ".
"باعَ آلته في سبيل لقمة العيش"
تأثيرات وخيمة عرفها قطاع التّنشيط الموسيقي، الذي كان معروفا في فترة ما قبل "الجائحة" بكونه قطاعا قائم الذّات لا يطلب دعما ولا يُسمِعُ صوتا. لكن، سبعة أشهر من التوقّف التّام عن العمل كانت كفيلة بتغيير هذه القاعدة.
يقول مصطفى الميساوي، مغنّي حفلات، إنّ مِن بين مهنيّي القطاع الذين يعرفهم مَن "غيّروا الحِرفة"، وامتَهنوا "بيع الأسماك أو الفواكه، أو الحراسة"، ومنهم "مَن باع آلاته الموسيقيّة، أو سيارته". وأمام "القطاع الجامد" لا مطلب لهم إلا "بما نعيش"، و"أن نستأنف عملنا"؛ فـ"جميع القطاعات استأنفت عملها إلا نحن، ويمكن أن نعود للعمل مع اتّخاذ الاحتياطات الواجبة، ونتناوب في العمل داخل كلّ فرقة"؛ فهذا "أحسن من أن لا نعمل".
في السياق ذاته، شدّد عبد الغني فتح، رئيس النقابة المغربية المستقلة لمحترفي الموسيقى والتراث الشعبي، على أنّ الموسيقيّين قد تضرّروا كثيرا خلال الجائحة، ودعا إلى "أن تجد وزارة الثقافة حلا"؛ لأنّ منهم "مَن باع آلاته، وأثاثه، ومنهم من وصل إلى الطّلاق".
ووضّح المتحدّث في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونيّة أنّ قطاع موسيقى الحفلات قد "ضاع أصلا" خلال السنة الجارية؛ لأنّ توقّفه عن الاشتغال تزامن مع وقت "الحفلات التي تبدأ بين أبريل ومطلع شتنبر"، وهو ما يعني أنّ توقّفهم قد استمرّ لما يقرب سنة.
ومع مطلب الدّعم الاستثنائيّ "كيفما كان"، أكد رئيس نقابة محترفي الموسيقى والتراث الشعبي على مطلب "استئناف الاشتغال"، ولو أنّ هذا قد تأخّر، بحسبه؛ فـ"الأعراس لن تبدأ إلا في شهر أبريل من سنة 2021، باستثناء السّهرات والملاهي الليلية التي ستنتعش فيها فئة، ولو اشتغلت بشروط".
أحمد العلوي، الأمين العام للنقابة المغربية للمهن الموسيقية، قال بدوره إنّ فنّاني الحفلات الذين "كانوا يشتغلون بعرق جبينهم دون طلب أي شيء، يعيشون محنة كبرى الآن؛ فمنهم من باع آلته وحاجياته، ومنهم فنان متخرج من معهد موسيقي وله شهاداته، رأيته يتسوَّل بآلته".
ودعا المصرّحُ عثمان الفردوس، وزير الثقافة والشّباب والرياضة، إلى "تحمل المسؤولية"، متسائلا: "إلى أين نذهب؟"، في ظلّ وجود "فنانين ليس لهم ما ينفقون على الدخول المدرسي لأبنائهم".
"زوبعة الدّعم الاستثنائيّ"
من بين الوسائل التي لجأت إليها وزارة الثقافة والشّباب والرياضة، للتّخفيف من أزمة قطاع الثقافة والفنون خلال الجائحة، الدّعم الاستثنائيّ للمشاريع الفنية، مِن مسرح، وموسيقى، وتشكيل، وفنون كوريغرافية، ومعارض فنية، لكن هذه المبادرة وجدت نفسها في قلب جدل واسع، تردد صداه في مواقع التواصل الاجتماعيّ.
تعدّد الانتقادات من أوساط فنية ومتابعين، فمن تهم "الزّبونيّة" و"الإقصاء" إلى أحاديث عن "اختلال ميزان الأولويّات"، دفع اسمين فنّيّين إلى التّخلّي عن الدعم المخصّص لهما، هما نعمان لحلو وسعيد مسكر. قبل أن تدخل نقابات على الخطّ موضّحة أنّ هذا "دعم موجّه للمؤسّسات لا الأفراد (...) مقابل خدمة"، في حين ذهب المكتب الوطني لقطاع الثقافة والفنون والاتصال التابع لحزب التقدم والاشتراكيّة إلى حدّ اتّهام "الخطابات الشعبوية التي انتشرت مؤخرا بشكل ممنهج ومفتعل على وسائل التواصل الاجتماعي"، بكونها "مدعومة سياسيا من قبل أوساط رجعية ونكوصية، لتبخيس الثقافة والفنون، وتأليب المجتمع على فنانيه ومبدعيه" وكأنَّ الفنانين "ليسوا مواطنين مغاربة".
في هذا السياق، قال عبد الكبير الركاكنة، رئيس الاتحاد المغربي لمهن الدراما، إنّ القطاع الفني قد "تضرر بشكل كبير، وخلق الوباء أزمة فيه، وتضرر فنانوه، مثل جميع القطاعات الأخرى"، وأضاف في تصريح لهسبريس أن "متنفَّس الدعم خلق سجالا داخل مواقع التواصل الاجتماعي، علما أن الفنانين لم يستفيدوا من شيء. والدعم، وجه للمؤسسات لا الأفراد"، موضحا أن سبب ذكر أسماء الفنّانين في لائحة المشاريع الحاصلة على الدعم هو تحمّلهم مسؤوليات في هذه الجمعيات والشّركات.
واسترسل الركاكنة بأن "في المشاريع المدعومة يوجد مجموعة من الفنانين في مؤسسات وجمعيات ومقاولات وشركات، وهي مؤسسات مرتبطة بدفتر للتحملات، وبناء عليه دفعت طلب الحصول على الدعم، مع توفير مجموعة من الوثائق، وتقديم مشروعها الفني، وعقود العاملين والتقنيين والإداريين"، وهو ما درسته لجنة خاصّة، قدّرت استيفاء المشاريع للشروط الموضوعة من عدمها، وقيّمت تكلفتها المالية، قبل دعمها بنسبة 60 في المائة من تكلفتها.
وعن تعبير فئة من مهنيّي الفنون عن تظّلمها لعدم استفادتها من الدعم، قال النقيب ذاته: "مَن لم يُقبَل ملفُّهُم، لهم الحق في المراسلة لمعرفة سبب عدم قبول مشروعهم، وبعد التوصل بتعليل اللجنة، يمكن آنذاك التعبير كمؤسسة عن رد فعل".
وسجّل المتحدّث "وجود فئة أخرى لم ترسل ملفّا، وعبّرَت عن ردّ فعله بدورها"، وهو ما يرى أنّه "يبيّن أن الفنانين تضرروا كثيرا"، فيوجد بالتالي "ظن بأن هذا دعم اجتماعي، بينما هو دعم مقابِل خدمة".
"المسرح.. حدادٌ مُعلَن"
مشاريع مسرحيّة عديدة وجدت نفسها متوقّفة خلال الأشهر السبعة الماضية، بعد إعداد وتدريب وتنسيق وبحث عن الدعم والرعاية. من بين هذه الأعمال التي وجدت نفسها في أزمة لا تعرف متى ستُطوى ورقتها، مسرحيّة "بضاض"، التي كان من المبرمج عرضها في شهر مارس الماضي.
يقول أمين ناسور، مخرج "بضاض"، إنّ مقاولته الفنية "كان عندها استحقاق، وراهنت على الاشتغال بطريقة مستقلّة من أجل إنتاج عرض مع مسرح محمد الخامس يستجيب لطموحات الجماهير الواسعة، وتحضر فيه مجموعة من الوسائل الفنية الجاذبة للجمهور"، وهكذا "بدأت العملية التواصلية قبل العرض الأوّل، ووثق مجموعة من المستَشهِرين في ملفّ العرض، وبُرمِجَت جولة من 12 عرضا، قبل العرض الأوّل وطنيّا".
لكنّ "كلّ هذا هَوى"، يضيف المسرحيّ ذاته في تصريح لهسبريس، فقد "ضاع مجهود كبير بعدما كنّا في المراحل النهائية للعرض، ومجموعة من المهنيين الذين لهم وظيفة واحدة هي المسرح، وهو مورد رزقهم، متوقّفون، وفرقتنا الآن لا أفق واضحا لها، وشركاؤنا كلّهم تراجعوا بسبب عدم الوضوح (...) المرتبط بوجود تذبذب في القرار السياسي حول الشأن الثقافي والفني، وعدم وجود تصور حكومي واضح حول هذا القطاع".
واستحضر ناسور ما يقابل "عدم الوضوح في القرار السياسي" حول قطاع الإبداع، بـ"التصوّر الواضح لكيفيّة عمل تدبير عدد من القطاعات الأساسية"، معلِّقا بالقول: "هذا حيف"؛ فـ"القطاعات جميعها ذات أهمية للمجتمع المغربي"، وهو ما يرى أنّه يُظهِرُ فراغ "شعارات الحكومة التي كانت تتشدق برهانها على الثقافة والتراث الثقافي والحضاري المغربي".
وتابع المسرحيّ المغربيّ قائلا: "لا يعقل أن المؤسسة الثقافية التي تأتيها النخبة، تبقى مغلقة، والأسواق النموذجية مفتوحة"، وتساءل: "هل استغنت الحكومة عن القطاع الثقافي والفني بالمغرب؟ وهل لَم يعد له أهمية عندها؟".
وشدد أمين ناسور على أنّ مطلب العاملين بقطاع الثقافة والفنون هو "فتح جميع المؤسسات الثقافية والفنية، خاصة في المناطق التي لا يوجد فيها انتشار كبير للوباء، بجميع التدابير الوقائيّة التي تعمل بها المؤسسات الأخرى"، مع العلم أنّ القطاع في حاجة إلى "استراتيجية شاملة لمواكبته"، وأنّ "الوضع الاستثنائي يجب أن ترافقه خارطة طريق وخطة عمل، تشارك فيها النقابات والفنانون وأطر وزارة الثقافة والشباب والرياضة"، لا أن نعامل مثل "قصّة الصّرار والنّملة"؛ فـ"يحتفي بنا المجتمع في وقت من الأوقات، ثمّ عندما جاءت الأزمة تركونا في الخارج".
"السينما.. خطر السّكتة القلبيّة"
في ظلّ استمرار إغلاق القاعات السينمائية لمدّة تزيد عن سبعة أشهر، يعيش مهنيّو القطاع حالة من التّخوّف مِن أضرار بعيدة المدى لا تقتصر عليهم، بل تمتدّ إلى المشهد الثقافيّ والفني، خاصة في ظلّ توالي أخبار إغلاق قاعات سينمائيّة بشكل نهائيّ.
وسبق أن وجّهت قاعة "سيني أطلس" رسالة، في شهر شتنبر الماضي، إلى عثمان الفردوس، وزير الثّقافة والشباب والرياضة، قائلة إنّ "القاعات السينمائية تجد نفسها أمام طريق مسدود، بعدما أغلقت أبوابها بسبب جائحة كوفيد-19 منذ اليوم 14 من شهر مارس الماضي"، ونبّهت إلى أنّها "قد أوقفت صرف مستحقّات صندوق الضمان الاجتماعي لثمان وعشرين مِن موظَّفيها منذ شهر يوليوز الماضي"، مضيفة أن "هذه العائلات وجدت نفسها دون مدخول، وفي وضعية مالية واجتماعية صعبة جدا، دون ظهور أيّ استئناف للعمل في الأفق المنظور".
في هذا السياق، قال نجيب بنكيران، رئيس الغرفة المغربيّة لموزّعي الأفلام، إنّ استمرار إغلاق القاعات السينمائية "خطير بالنسبة لنا، وبالنسبة لقطاع الثقافة"؛ فـ"المنظمات السينمائية، والمنتجون، وغرفة موزعي الأفلام، كلهم يشتكون، ولا نستطيع الاستمرار؛ وقاعات كبرى أغلقت أبوابها بصفة نهائية".
وفي حديث مع هسبريس حول إغلاق القاعات السينمائية منذ منتصف شهر مارس الماضي، استحضر نجيب بنكيران مراسلة المتضرّرين "المسؤولين"، مِن وزارة للثقافة، ومركز سينمائي مغربيّ لمساعدة الميدان عبر برنامج، ثم استدرك قائلا: "ولكن للأسف لا شيء إلى الآن".
وزاد المتحدّث موضّحا مدى ضخامة المشكل الذي يواجه القطاع السينمائي: "موردنا هو القاعات السينمائية، وهذه القاعات مغلقة، والإنتاج مغربي في ركود، رغم وجود مجموعة من الأفلام، خاصة بعد الدورة الأخيرة للمهرجان الوطنيّ للفيلم بطنجة، فعندنا ثلاثون فيلما لَم تعرض من قبل، ومعدّل قيمة كلّ منها 200 مليون، ولنحسب إذن مقدار الخسارات التي كان يمكن أن نبني بها مستشفيات، ومراكز ثقافية، وسينمات يستفيد منها المغاربة".
وأضاف قائلا: "فعلا أخذ الوزير قرارا بالدعم المادي للقاعات المغلقة، ولكنها مساعدة دامت ثلاثة أشهر فقط وتوقفت، والقاعات كلها مهددة بالإغلاق، ومَن يعملون بها مهددون بالتشرد، ولمّا تحدّثنا مع الوزير عن استئناف العمل، قال إنّه لا يملك هذا القرار السياسي، وربطه بالحالة الصحية للبلاد".
وأمام توالي أخبار الإغلاق النّهائيّ لقاعات سينمائية، آخرها في الدار البيضاء ومراكش، لخّص رئيس الغرفة المغربيّة لموزّعي الأفلام مطالب القطاع في "مساعدة السينما مِن طرف الدّولة، مثل قطاع السياحة".
"فنّانو الشارع.. إبداعٌ دونَ أفق"
"قباقب" كناوة، وموسيقى، ورقص... مشهد يعيشه منذ أسابيع شارع محمد الخامس بالرباط، ممّا دفع متابعين إلى القول إنّ العاصمة تشهد شبه انفراج في مشهد فنّ الشّارع. لكن، لا يعني هذا انفراجَ وضع فنون الشّارع بباقي مدن البلاد.
وفضلا عن مشاكلهم المعتادة مع وزارة الثقافة حول الدّعم والاعتراف، عاش فنّانو الشّارع وضعية صعبة جدّا خلال فترة الحَجر التي حرمتهم مورد رزقهم: الشّارع. وهو وضع يستمرّ في العديد من مدن المملكة.
ونفى طارق ربح، نائب رئيس فيدرالية المغرب لفنون الشارع، وجود انفراج في المجال، وقال موضّحا في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونيّة: "حتى في الرباط يخرج فنّانو الشارع يوما أو يومين، يجرِّبون، ثم يُمْنَعُون أو يضايَقون".
وشدّد المتحدّث على أنّ هؤلاء الفنّانين "في وضعية سكتة قلبية على جميع المستويات، ويحتاجون تدخل الدولة، وقليلا من الاجتهاد".
وأضاف: "في عموم الدول، توجد مدن مغلقة، وفنّانو الشارع ممنوعون من الفضاء العمومي، وفي المدن التي فيها انفراج تُمنَع التجمعات"، فيعملون بالتالي "وكأنّهم يشتغلون لرفع معنوياتهم فقط"، مع استمرار غياب أيّ مبادرة للدّولة تجاه هذه الفئة، لا من الوزارة الوصية ولا مِن الجماعات المحلية.
وإضافة إلى الدّعوة إلى "دعم مباشر لهذه الفئة التي تعيش صعوبات كبيرة جدّا"، دعا طارق ربح إلى أريحيّة في التعامل مع هؤلاء الفنانين خلال هذه الظرفية الخاصة في المدن التي تعرف انفراجا، "لا أن ينضاف التضييق لضيقِ الوضع".
"قطاع النّشر.. احتضار وانتظار"
تمتدّ أزمة قطاع الثقافة والفنون إلى النّشر ومهنيّيه، فتجاور أزمة "كورونا" أزمات "الكتاب" بالمغرب، من قلّة المقروئية وضعف الهيكلة.
وقدرت نادية السالمي، ناشرة، أنّ الدولة قد "قامت بخطأ كبير، هو أنّها أغلقت المكتبات في زمن الحجر، في حين كان يجب أن تبقى مفتوحة مثل الصيدليات ومحلّات المؤن، خاصة وأنّ المكتبات لا زحام عليها في المغرب، وحتى لو حدث ذلك، كان يمكن تنظيم الدّخول إليها؛ فما أنقذنا خلال الحجر هو الثقافة، وما وقع عند إغلاق المكتبات هو تبادل الناس الكتب بصيغة رقميّة أو ورقيّة".
وأضافت الناشرة ذاتها في تصريح لهسبريس: "ميداننا أصلا يمكن اعتباره ترفا، وعندما جاءت الجائحة قتلت المجال، ونحضر الآن إغلاق مكتبات، فيما سيغلق ناشرون كبار أبوابهم"، في "وضعية كارثية".
وتابعت السالمي بأن "الدخول المدرسي خلق لنا مشكلا أيضا، فهذه الفترة هي التي نشتغل فيها، فنعمل مباشرة مع المكتبات، لكن مع تذبذب الدخول المدرسيّ، لَم نبع شيئا".
واسترسلت قائلة: "نحن في وضع دراماتيكي، ونسير في ضبابية، ولا نعرف ما الذي سيقع خلال اليوم، ولا علم لنا بما يتمّ، وما سيتمّ، وهو ما يزيد تضرّر الشخص وينعكس على الإنتاج، بسبب التساؤل عن مصير الكتب ومن سيدفع بدل الطبع".
ووضّحت المتحدّثة أنّه "لو كان عندنا على الأقل خطّة"، تحدّد طريقة التعامل مع القطاع وإلى متى سيتمرّ إغلاق كلّ شيء، "كنّا سنعرف أين سنذهب، على الأقل، وكنا سنتأقلم"، بينما الآن يبقى المشتغلون بالقطع "الضحايا الكبار لكورونا، علما أنّ توقيفنا لا يعطي أيّة نتيجة، في ظلّ عدم احترام النّاس لتدابير الوقاية".
ورغم مبادرة وزارة الثقافة بشراء مجموعة من الكتب من الناشرين، ترى المصرحة لهسبريس أنّ هذا "ليس ما سينقذ المجال، ولن يأخذنا بعيدا"، في حين "يزيد المشكل ويكبر"، قبل أن تجمل قائلة: "هذه مبادرة صغيرة جدا للوزارة الوصية، ومع كونها جيّدة إلا أنّها غير كافية".
"العروض التّشكيلية .. توقّف اضطراريّ"
رغم استئناف المتاحف عملها بتدابير وقائيّة صارمة، إلّا أنّ مشاريع فنية تشكيلية قد عرفت توقفا نهائيا، بسبب طول فترة الطوارئ الصحية، كما يخيّم شبح الإفلاس على مجموعة من الأروقة.
ومن بين المشاريع المتوقّفة، المعرض التّشكيليّ "أيادي النور" الذي عَبَر العديد من جهات المغرب، قبل أن يجد نفسه متوقّفا اضطراريّا قبل حطّ الرحال بآخر جهتين، ليختتم فعاليّاته في الأخير دون إتمام مشروعه.
محمد المنصوري الإدريسي، رئيس النقابة المغربيّة للفنانين التشكيليين المحترفين، قال إنّ الفنانين قد تضرّروا خلال فترة الجائحة بشكل بالغ، ولا سيما في البلدان التي لا يتوفر فنانوها على أنظمة للحماية الاجتماعية مثل المغرب.
وأضاف المنصوري في حديث لهسبريس: "أتت هاته الجائحة لتشخيص مآزق الوضعية المأزومة التي آل إليها التشكيل المغربي اليوم، ولبيان أعطابها، ومساءلة آفاقها المستقبلية".
ويرى المتحدّث أنّ الإشكالات الرّاهنة "تستدعي قدراً وافراً من المكاشفة النقدية والتوسل بقيم التجرد والنزاهة والموضوعية، للنهوض بقطاع فني بدأت عوامل الاهتراء والتّخبّط تتسلل إليه، وتوشك أن تشل قِواه الفاعلة، وتربك ديناميته الخلاقة".
وأورد نقيب التشكيليين المحترفين أن "العمل الفني متى تحول إلى منتوج تسويقي، انضافت إلى قيمته الجمالية قيمة تداولية مالية يحددها سوق الفن"، قبل أن يستدرك قائلا: "لكن سوق الفن في بلدنا يفتقد في كليته إلى الهيكلة المؤسسية وإلى الإطار القانوني، وإلى كثير من ملامح العقلانية الاقتصادية".
وشدّد المنصوري الإدريسي على أنّ "صالات العرض والمعارض الفنية غارقة في أزمة جائحة "كورونا"، خاصة وأن النشاط قد يواجه صعوبة في الاستئناف بعد الحجر، فضلا عما يحضر اليوم من خشية معارض الفنون التّشكيليّة والبصريّة مِن أن "تتصاعد حالات الإفلاس، وتعاني معارض الفنون التشكيلية والبصرية من عواقب أزمة هاته الجائحة بشكل عنيف".
"أيّ أفق؟"
يرى مسعود بوحسين، رئيس النقابة المغربيّة لمهنيّي الفنون الدرامية، أنّ الإشكال المطروح هو أن "المجال الثقافي والفني كان من المجالات التي أوقفت هي الأولى، قبل الحَجر، وبعد ذلك تمّ الرفع الجزئي للقيود على جميع المجالات إلا هذا المجال الفني".
ونبّه بوحسين في تصريح لهسبريس إلى إشكال "تزامن زمن الجائحة مع الفترة التي يشتغل فيها الفنانون بشكل كبير، وتعثرات الزمن الثقافي السابق، وامتداد المجال الفني بشكل واسع يضمّ الفنانين المشتغلين في التلفزة والراديو، والمسارح، والملاهي، وعددا كبيرا من المواطنين والمواطنات والمِهن المرتبطة بهم".
ومع العدد الهائل من المشتغلين في القطاع الفني والثقافي، انتقد بوحسين "الرؤية الحكومية الضيقة جدا"، وأكّد ضرورة "رفع الحَجر" على القطاع، واستغلال العروض لترويج ثقافة الحماية الصحية، خاصة وأنّ الدعم الاستثنائيّ لوزارة الثقافة والشباب والرياضة "مبادرة محدودة جدا، بمبالغ محدودة لا يمكنها تلبية رغبات الناس أجمعين".
وأعرب بوحسين عن تخوفه من أنّ استمرار الإغلاق "سيعصف بكل ما اكتسبته الثقافة المغربية والفن المغربي من إشعاع وتطور راكمته في السنوات العشر الأخيرة"، في حين "يمكن العمل في إطار يستجيب لظروف الوقاية، وأن يشتغل الفنّ كمنصّة للدعوة إلى الالتزام بتدابير السلامة الصحية".
وزاد رئيس النقابة المغربيّة لمهنيّي الفنون الدرامية أن "ما يجب أن يفهمه المسؤولون، هو أن القطاع الفني أوسع من الحدود الرسمية التي نحصره فيها، فيندُر أن لا نجد في مدينة صغيرة فرقا موسيقية، ومنشطين ثقافيين، ومسرحيّين، وغيرهم"، وبالتالي يجب أن تبقى الثقافة مستمرة دائما، مع التقدير للوضع الذي تعيشه البلاد.
نائلة التازي، رئيسة فدرالية الصّناعات الثقافية والإبداعية التابعة للاتحاد العامّ لمقاولات المغرب، قالت بدورها إنّ الناس كلّهم متضرّرون من الأزمة الراهنة في المغرب والعالم. واستحضرت في ظلّ هذه المرحلة الصّعبة "القيمة المضافة التي يجلبها قطاع الثقافة والفنانون للبلاد".
وأضافت المتحدّثة أنّ هذا القطاع هو الأكثر تضررا، ليس لعدد المشتغلين فيه، بل لأنّ الحكومة قد اتخذت قرارا يمنع عمله منذ 7 أشهر، وهو ما "يتطلّب حلولا حكوميّة تغطّي الأمدين القريب والبعيد، بما أنّ قرار الإيقاف حكوميّ".
وأفادت رئيسة فدرالية الصناعات الثقافية والإبداعية بأنّها تعمل منذ شهور إلى جانب الحكومة "من أجل إيجاد حلول لهذا القطاع المتضرّر كثيرا"، وتنظيمه، وحفظ التراكمات التي حقّقها بفضل الجهود المبذولة في السنوات العشرين الأخيرة.
من جانبه، شدد عبد الكبير الركاكنة، رئيس الاتحاد المغربيّ لمهن الدّراما، على "الحاجة إلى فتح المسارح والسّينمات، وقاعات الحفلات، بشروط احترازية ووقائية، من بينها عدم تجاوز نصف الطاقة الاستيعابية"، قصدَ "إنعاش سوق القطاع الفني، وخلق فسحة أمل وابتسامة وفرحة لدى الجمهور والمواطن المغربيّ".
قد يهمك ايضا