باريس - المغرب اليوم
للبساطة أسرار تستدعي حيازتها معرفة كل التفاصيل المعقدة، على أن المسألة ليست بهذه البساطة... ليس فقط لأنها تتصل بالذاكرة الزخرفية، وإنما لأنها أيضاً على علاقة بالذائقة، ذائقة الفرد والجماعة. لذا، فإن عمل مهندسة الديكور «سارة لافوان» يبدو هنا أقرب الى المرجعية منه إلى المثال.
فهي استطاعت أن تخوض رهاناً يبدأ بترميم هذه الشقة ذات الطابع الهوسماني الشهير، بمساحة 180 متراً مربعاً الواقعة في «سولفرينو»، وهو واحد من الأحياء الباريسية الراقية، من الدائرة السابعة... وصولاً الى تنسيقاتها الداخلية والتي كما يبدو توصلت فيها الى نتيجة باهرة.
«لافوان» تستخدم كل الألوان، من دون أن تدخلنا في جو كرنفالي باذخ... بل أكثر من ذلك، فإنها باقتصادها الذكي، جعلت من الرمادي خلفية مناسبة من دون أن تسمح لها بطغيان الحضور...
مثل هذه الخلفية، لا تسمح فقط باستقبال كل الألوان، بل تعطي أيضاً الفرصة لتنسيق العصور والحقب، وتساهم بالتالي في مزج التيارات والطرز... فهي مثلاً تسمح بتجاور الستينات والخمسينات، بألوانهما وخطوطهما، من دون أن يشكل هذا الأمر عائقاً أمام ابتكار أناقة ورفاهية مكتملتي الشروط.
على أن الأمر الذي لا بد من ملاحظته في هذه الشقة، هو هذا السكون الكامن في أجوائها، والذي يبدو، بمفارقة غامضة، هو نفسه باعث الحيوية في الأشياء والعناصر... فوق هذه المساحات الصامتة، ثمة حياة تنبض في الموجودات، فتؤهلها للمساهمة في خلق أجواء فريدة في اتساقها وتناغمها.
وفي هذا واحد من أسرار البساطة، تكشف عنه المهندسة «لافوان» من خلال بعض اللمسات والتفاصيل الزاخرة بكل ما يشد الأبصار اليها، والتي تضخ في المشهد الزخرفي نغمات من الغرابة حيناً، أو الرصانة حيناً آخر، وفي أحيان كثيرة تبث غموضاً لا يزعج الناظرين.
ومثل هذه اللمسات أو التفاصيل، يمكن ملاحظتها في «غابة» الألوان، عبر ثنائية عادية من الأسود والأبيض... فمرة يخطر للونين أن يتجسّدا بأكسسوارات مختارة بعناية و«مزاج»... ومرة نجد آثارهما تتداخل مع الأرضيات، ومرة أخرى نُفاجأ بباب أو «كونسول» أو حتى بزخارف عملاقة على الجدران.
سر آخر من أسرار البساطة يكمن في نقاء الخطوط لزخرفة يصعب معها الحديث عن طراز أو أسلوب: إنها الإضاءة التي لا يمكن ملاحظة مصدر محدد لها، فهي إما مستوردة من الخارج عبر نوافذ عملاقة، تتسم بها في الغالب الهياكل الهندسية «الهوسمانية»، أو هي مخفية أو ظاهرة من خلال عناصر إضاءة يصعب أن نقول إنها هنا في أمكنتها لغير الزينة.
كل الألوان حاضرة في هذه الشقة، وكل لون بمقدار: الأبيض، الرمادي، الأزرق، الأخضر وصولاً الى البرتقالي... ومع ذلك فالألوان هنا لا تبدو اللاعب الرئيس في هذا المشهد البديع، فثمة عناصر أخرى تشارك في البطولة وتدعم الفضاءات بمساهمات مدروسة بدقة وكفاءة.
نلمس في مقاربة «لافوان» لتصميم ديكور هذه الشقة، اهتماماً بالغاً في صيانة هيكلها الهندسي القديم الذي يحمل الطابع الهوسماني. ومن أجل الحفاظ على هوية المكان، قررت المهندسة الإبقاء على الكثير من عناصره القديمة الأساسية، والتي تشارك في صياغة الطابع ، كالمدفأة - مثلاً - التي تتصدر الصالون وبعض أركان غرف النوم حيث تبدو في منتهى الإلفة مع زخرفة الجدران وأفاريز السقوف التي تولّد بألوانها المشرقة الفاتحة نوعاً من المواجهة الزخرفية الجميلة مع لون الأرضيات الخشبية الداكنة...
بالطبع، فإن تغييب الألوان الصاخبة أو الصارخة، كان جزءاً من واقع الانسجام المطلوب من أجل مخارج زخرفية مرغوبة. لذا، تمت هنا عملية مزج الطرز والأساليب والحقب الزمنية، لاستنباط عملية جديدة هي مزج الأجواء.
فنحن أمام نمط جديد، مبتكر حيث تتجسد الحياة في شريحة من ستينات القرن الماضي، وتعاود نشاطها بشباب جديد يتناسب مع معطيات القرن الواحد والعشرين... والبساطة التي تحيط بقطع الأثاث والأكسسوارات تبدو مستمدة من ذلك التكامل المدهش بين أبسط الأشياء وأكثرها تكلفاً. كذلك، فإن نبالة المواد المختارة والتي تم استخدامها ببراعة قد شكلت مساهمة أخرى في تحرير المكان ومساحاته من عبء التكديس أو الصدمات البصرية.
الرخام بألوانه التي تتراوح بين الأبيض، الأسود والعسلي يغطي أرضية المدخل بتناغم تام مع لون الجدران وقطع الأثاث والأعمال الفنية وبعض من أجواء الصالات والغرف في المشهد الداخلي، والموزعة في المكان بلمسات رشيقة تعكس ميول سيدة المكان.
وفي الصالون حيث طوفان الأبيض – لوناً وضوءاً – تبدو المواجهة الزخرفية في كامل نعومتها بين أركان هذه المساحة... سقفها وجدرانها وقطع الأثاث التي تشارك في صياغة حلم مواكب لكل الأزمنة... حلم تدور وقائعه على سجادة بديعة من تدرجات اللون الأزرق، لتؤكد أصالة الرفاهية واتساع آفاقها.
ومما يلفت في الجانب الآخر من الصالون، ركن المدفأة حيث يقف مجسم لدب قطبي جميل باللون الأبيض كحارس لألسنة النار، مما يضفي على المشهد لمسة من الطرافة والواقعية السحرية. وقد نسق في جانب من هذا المكان ركن لتناول الطعام تحتله طاولة مستعادة من الخشب والمعدن تحيط بها اربع كراسٍ مبتكرة.
غرفة النوم الرئيسة تميزت بجدران ملبسة بالخشب تزينها زخارف على شكل أغصان أشجار عملاقة، من ابتكار الفنان «زويه اوفرييه» محفورة باليد، منحت جو الغرفة بعداً فنياً جميلاً...
بينما اكتست غرفة النوم الثانية باللون الأبيض الذي غطى الجدران ومفارش السرير ورأسه والذي تم استخدامه كحاجز فاصل بين غرفة النوم وركن خزائن الملابس المندمجة من الجهة الأخرى داخل هذا الحاجز، والتي لُبّست أبوابها بالمرايا وزُينت بشريط للإضاءة لتوفير المزيد من وضوح الرؤية.
أما غرفة الضيوف فقد غُطيت جدرانها باللون الأزرق، ونُسقت فيها أريكة وثيرة قابلة للتحول الى سرير عند الحاجة، وقد احتل جانباً من الغرفة ركنٌ للتلفزيون ومكتب صغير بالغ الأناقة.
المطبخ تم تصميمه بخطوط بسيطة ليحتضن خزائن بيضاء بسطوح من اللون الأسود تقابلها وحدة من الخزائن المصنوعة من الخشب باللون الطبيعي تندمج داخلها مجموعة من أدوات الطهو ومعدّات المطبخ. بينما احتل مساحة من المطبخ ركنٌ بسيط للطعام وبعض من عناصر الزينة.