آخر تحديث GMT 06:25:28
الدار البيضاء اليوم  -

"تراتيل أمازيغية" وأسئلة سردية في الهوية

الدار البيضاء اليوم  -

الدار البيضاء اليوم  -

يعود الروائي المغربي مصطفى لغتيري لكتب التاريخ القديمة ويسائلها بحثا عن المكونات الرئيسية التي يمكنها إثراء محكيه الروائي وهو لا يكتفي بالتاريخ في بعده الوثائقي، بل يسعى إلى خلخلة صدقية هذا الأرشيف في سعي إلى بلوغ حقيقة المتخيل لا حقيقة الخيال، كما في روايته الأخيرة "تراتيل أمازيغية". ويستلهم صاحب "أسلاك شائكة" الأساطير المصاحبة للوثيقة التاريخية بوصفها تشتغل في اللاوعي وتستبطن المعلومات التي تحارب من طرف التاريخ الرسمي، فالكثير من الحقائق الإنسانية تتلبس شكل الأساطير والخرافات وتتخذها أقنعة كي تراوغ الرقابة الرسمية التي تسعى إلى خنقها وتهميشها واستئصالها. وفي ظل المتغيرات الجديدة التي حملها الربيع العربي، والحراك الذي تعرفه القضية الأمازيغية في المجتمع المغربي وغيره من بلدان المغرب الكبير سعى لغتيري إلى مساءلة هذه القضية في بعدها الاجتماعي-الثقافي وانعكاساتها على المنجز البشري، في ظل البنية السكانية الثقافية ذات التلوينات المتعددة. وتأتي رواية "تراتيل أمازيغية" التي صدرت مؤخرا عن دار المايا في سوريا في هذا السياق لتتخذ موضوع الأمازيغ محورا رئيسا لها في حلة سردية تجمع بين الوقائع التاريخية للقضية، وأبعادها التخييلية والثقافية. ويحاول مصطفى لغتيري عبر روايته إخراج هذه القضية من بعدها الأيديولوجي والسياسي ليركز على ثرائها الثقافي الذي يضيع في غياب التوثيق والتأليف الذي لم يبدأ إلا مؤخرا عبر مجموعة من الباحثين الذين حملوا على عاتقهم هذا الهم الثقافي. ويعرض الروائي المغربي في متنه السردي لحرب ضروس قام بها الأمازيغ ضد الرومان ردا للاعتبار واستردادا لكرامتهم، حيث كان الرومان يعتبرونهم شعبا رعويا لا قوة له على حمل السلاح والحنكة السياسية، فاستولوا على أرض الأمازيغ في مرحلة ما قبل الإسلام، واستنزفوا خيراتها وأسسوا فيها قلاعهم وملاعبهم ومسارحهم، لكن انتصار الأمازيغيين كسر شوكتهم وجعلهم يقلعون عن احتقارهم لهذا الشعب. ومع أن هذه الرواية تجنح إلى الخيال في كثير من محطاتها، فهي تعتمد على التاريخ وعلى الأساطير القديمة، لتشكل مادتها الإثنوغرافية سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية. فقد عاد لغتيري إلى المصادر التاريخية الكتابية منها والشفهية التي تدون وقائع وأحداث وعلاقات الأمازيغ ورحلاتهم بحثا عن الأمن والاستقرار، ومن هذه المادة المتفرقة صاغ الروائي المغربي عالمه الواقعي والمتخيل حول العنصر الأمازيغي الذي ضرب بجذور ثقافته في أعماق أفريقيا كلها، مستندا إلى طابعه السلمي واشتغاله بالفلاحة والصناعات التقليدية والأنشطة التجارية، متحاشيا الاصطدام بالحضارات والشعوب التي يلتقيها، متحليا بغريزة التعايش والتعاون. لذلك فقد كان هذا الشعب العريق -كما في الرواية- لا يجد مشاكل في تأسيس مجموعات بشرية حيثما حل وارتحل، بل كانت الحضارات المحلية ترحب به وتؤمن له الاستقرار، غير أن اعتداءات خارجية من حضارات طامعة كانت دوما بالمرصاد، تسعى إلى نهب خيراته ووأد اطمئنانه واستعباده، مثل ما فعل الرومان في متخيل الرواية. وإذا كان السائد والمعروف عن الشعب الأمازيغي أنه مهادن ميال إلى السلم، فهذا لا يعني أنه لا علم له بالسياسة وفنون القتال، بل بالعكس، كما تقر الرواية ومعها مصادر التاريخ، كان الأمازيغ شعبا باسلا، وشجاعا يقاتل بشراسة ويصمد إلى آخر رمق حتى ولو كانت الحرب غير متكافئة، مفضلا الفناء على الخضوع والاستسلام، خاصة لما يتعلق الأمر بهويته واستقراره وأرضه. وتسرد الرواية قصة أمير أمازيغي يدعى "غيلاس"، يتحلى بأخلاق حميدة ويرفض كل أشكال النفاق والتزلف، يتأمل الظواهر الطبيعية ويكتب الشعر، يحب فرسه "أودجاك" الذي اتخذه صديقه الوحيد، لكنه عندما التقى بالأمير الأفريقي النيجيري، الذي تعرض للاختطاف من طرف النخاسين، سيشتريه ويسميه "أوسمان" ويتخذه صديقه المفضل، لأنه وجد فيه المواصفات المطلوبة "الصدق، وحب الفروسية، والشهامة". سيواظب الرجلان معا على التزود بالعلم من الحكيم "إيفاو" الذي سيطلعهما على أخبار الشعوب وعاداتهم فيحفزهما ذلك للقيام برحلة طويلة يكتسبان خلالها معارف كثيرة وخصال حميدة، تتوطد علاقتهما أكثر فيهديه أوسمان صدفة تصبح تميمة غالية، ويهديه "غيلاس" بدوره نجمة في السماء، وبعد رحلة طويلة يعودان للقبيلة ليفاجآ بموت الملك. يتوج غيلاس ملكا للبلاد، ويتخذ أوسمان وزيرا له، ويزوجه اخته "تورين" ولكن اختطاف الرومان للأميرة "توسمان" خطيبته تجعلهما يلقنان الرومان دروسا في البطولة والحنكة السياسية، عكس ما كان الرومان يتصورون عن الأمازيغ. ويقول لغتيري على لسان الراوي: "ما شد انتباهي في كل ما جاء به الحكيم "إيفاو" تلك الحكايات عن شعبنا المتفرق في بلاد الدنياـ حكى لنا بفخر، بأنه أينما حل وارتحل وجد لنا إخوة من الأمازيغ يعيشون في الأرض الواسعة، منهم من يعيش في أعماق الصحراء مكتفين بشظف العيش، ومنهم من أسسوا ممالك وحضارات، وتربطهم علاقات متينة بباقي الدول الأخرى". ويضيف الرواي "حين يحكي الحكيم كل ذلك، يداعب خيالي حلم، يصر علي أحيانا، لكنه يمر عابرا في أحايين أخرى، حلم في أن يتحد هؤلاء الأمازيغ في دولة واحدة، يتوحدون فتقوى شوكتهم، وتكون رادعة لأمم الشمال التي تستقر ما وراء البحر..". إن رواية "تراتيل أمازيغية" دعوة إلى التعايش بين الثقافات رغم اختلاف عناصرها، والاعتراف بالمكون الأساسي للهوية المغربية الأمازيغية، ونبذ التفرقة التي يسعى البعض جاهدا لزرعها في المجتمع المغربي.

casablancatoday
casablancatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تراتيل أمازيغية وأسئلة سردية في الهوية تراتيل أمازيغية وأسئلة سردية في الهوية



GMT 19:53 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 08:23 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجدي الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 18:00 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تشعر بالانسجام مع نفسك ومع محيطك المهني

GMT 15:27 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

توقيف فتاة كانت بصحبة شاب على متن سيارة في أغادير

GMT 03:00 2017 الإثنين ,02 كانون الثاني / يناير

أنطوان واتو يجسّد قيم السعادة في لوحاته الفنيّة

GMT 18:55 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تمرّ بيوم من الأحداث المهمة التي تضطرك إلى الصبر

GMT 20:15 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

افتتاح المهرجان الدولي لمسرح الطفل في رومانيا

GMT 12:01 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

وجهات منازل رائعة استوحي منها ما يناسبك

GMT 09:29 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

أفكار مختلفة لترتيب حقيبة سفركِ لشهر العسل

GMT 08:44 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منظمة "ميس أميركا" ترفع الحد الأقصى لسنّ المتسابقات

GMT 09:08 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

أفضل الطرق لتنسيق تنورة الميدي مع ملابسك في الشتاء
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca