يوم اعتراف بعطاء الصحافي محمد البريني واستحضار لتاريخ وحاضر الصحافة المغربية، طبع مدينة أصيلة، الخميس، بحضور أسماء بارزة في المشهد الإعلامي بالمملكة.وبكلمات أوقفت استرسالها عين متأثرة، استقبل البريني الشهادات التي توالت طيلة اليوم في ثلاث جلسات، شهدت، أيضا، تعبيرا عن استعداد أطراف متعددة من الجسم الصحافي لرأب الصدع بينها.
وإضافة إلى الإعلان عن إصدار كتاب جماعي يضم شهادات حول مسار المحتفى به، قال محمد بن عيسى، رئيس مؤسسة منتدى أصيلة رئيس بلدية المدينة، إن تخليد ذكرى هذا اليوم الذي وصفه بـ”أكبر حدث وقع في موسم أصيلة الثقافي الدولي منذ نشأته” سيكون بتسمية القاعة التي احتضنته في مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية باسم محمد البريني، وهو المركز الذي دشنه الملك محمد السادس عندما كان وليا للعهد.
وأمام توالي المداخلات التي عددت مناقب البريني، وأحاطت بإسهامه في تأسيس الصحافة الخاصة بالمغرب، وفي قيادة جريدة الاتحاد الاشتراكي قبل ذلك في “زمن الرقابة”، اختار المكرم بعد تعبيره عن سعادته الكبيرة و”خجله الأكبر” الحديث عن مواطن ارتكب فيها أخطاء في تقديراته المهنية وطلب السماح والمغفرة.
وبعد تسميته جميع من تدخلوا في تكريمه، توجه البريني إليهم بالحديث قائلا: “لكم علي الكثير من الأفضال، وتعلمت منكم الكثير، ولم يكن ما حدث ليحدث لو لم ألتق بكم، في مسيرة طويلة، ومن مواقع مهنية مختلفة (…) قضيت فيها مع كل واحد منكم زمنا مهنيا مفعما بالمودة والتعاضد والصدق في خدمة القضايا الكبرى لوطننا، وصحافتنا الوطنية”.
ووصف محمد بن عيسى هذه الخيمة التكريمية للبريني بكونها تستحضر “جهاد إنسان مغربي آمن برسالة، وسبيل في العمل مستمر إلى اليوم. إنسان نزيه بكافة معاني الكلمة، مع النفس والأهل والأحباب والعمل والدولة”.
وأضاف رئيس مؤسسة منتدى أصيلة، الذي سبق أن شغل منصبي وزير الثقافة ووزير الخارجية والتعاون: “اخترنا (تكريم) أحد الفاعلين المجدين في مجال الصحافة والإعلام. عرف بمواقفه المستقلة، وصرامته المهنية، والشجاعة في الرأي، كما يتجلى ذلك في مساره المهني محررا، فرئيس تحرير ثم مديرا للنشر، في ثلاثة منابر صحافية وطنية، حققت انتشارا تجاريا، وكسبت حظوة لدى القارئ المغربي”.
وتابع المتحدث: “إن اختيارنا للبريني ليكون الضيف الرئيس على خيمة الإبداع أملته اعتبارات موضوعية، تتعدى الشخص الذي يستحق وحده التنويه بشمائله وصفاته الإنسانية، ليشمل التكريم أسرة ورموز الصحافة والإعلام في بلادنا، باعتبارها ركيزة لازمة لأية نهضة مجتمعية. لا يمكن تصور بناء ديمقراطية، وما نصبو إليه من تحديث البنيات المؤسسية، بدون صحافة متطورة ناصحة، شكلا ومحتوى، قادرة على إقناع القارئ وتنويره في الخارج قبل الداخل”.
من جهته تحدث محمد الأشعري، من الأسماء البارزة لجريدة “الاتحاد الاشتراكي” وزير الثقافة سابقا، عن وفاء البريني “منقطع النظير” لأفكاره السياسية، و”وفائه الصوفي” لشغفه بالصحافة. كما تحدث عن أسلوبه في الحوار والعمل المشترك وشخصيته متواضعة، التي مكنته من تعبئة طاقات شاركته أهم تجربة صحافية حزبية في المغرب المستقل (صحيفة الاتحاد الاشتراكي).
وأضاف الأشعري أنه في فترة إدارة البريني ليومية “الاتحاد الاشتراكي”، لسان أبرز الأحزاب المغربية المعارضة آنذاك، “على نحو غير متوقع بين 1983 و1995 صارت الجريدة أكبر من الحزب”، قبل أعراض عودة الفقيه البصري إلى المغرب التي كانت تعبيرا عن “أزمة أعمق”، في الفترة التي سبقت التناوب التوافقي وكان يريد فيها كل من القادة “إحكام قبضته على هذا التحول؛ في إطار ديمقراطية الأنبياء المستمرة إلى اليوم: ساعات من النقاش، ليس قبل اتخاذ القرار، بل قبل التفويض جملة وتفصيلا للقيادة التي تتخذ القرار”.
وزاد الأشعري معلقا: “كل السنوات التي بذلها في بناء مؤسسة صحافية حديثة لم تصمد أمام البنية التقليدية للحزب (…) ثم لما أراد الانطلاق لتأسيس الجريدة المستقلة، طلبت منه عدم الاستشارة مع الكاتب الأول للحزب عبد الرحمن اليوسفي، لكنه فعل (…) ورفض القائد طبعا، لكنه أنشأها مع ذلك”.
وتحدث وزير الثقافة السابق عن “أزمة الصحافة” في المغرب التي قال إنها “جزء من أزمة الوضع السياسي”؛ فـ”لا تطور بدون تطور الوضع السياسي”، وفي ظل “وجود عوائق سياسية عامة”. وهو ما قاله بعد حديث سابق له في هذا اليوم التكريمي عن تجارب “الصحافة المستقلة” (وهو تعبير ظهر لتمييزها عن الصحافة الحزبية).
وسجل الأشعري أن “كثيرا من العناوين التي حسبت طوعا أو كرها، حقا أو باطلا، على الصحافة المستقلة لم يكن جلها مستقلا تماما إلا عن الأحزاب، وجلها كان مرتبطا، وهو يرفع شعار الاستقلالية، بأوساط المال والنفوذ أو السلطة، وبعضها كان مستقلا بالفعل؛ لكن ما إن زاغ عن الطريق المرسومة له حتى داسته الأحذية، وبعضها صدق مطمئنا أن الاستقلالية في الصحافة ممكنة ومطلوبة حتى داهمته المتابعات والمحاكمات، وبعضها تحول إلى أرقام في بورصة المعاملات التجارية”.
وواصل المتدخل: “عندما أتأمل تحولات هذا المشهد الإعلامي أجده يجسد بطريقة مأساوية محنة التصادم بين الصحافة كبنية حديثة والسياسة كبنية تقليدية، وتبدو لي تجربة البريني جزءا لا يتجزأ من مقاومة اضطلعت بها أجيال من الصحافيين، بذلت جهودا خارقة لبناء منابر صلبة فوق أرض سبخة سرعان ما تبتلع البناء”. وذكر في هذا الإطار أن “لدينا عددا كبيرا من الصحافيين المدهشين بشغفهم وإنتاجاتهم مثل محمد البريني؛ لكن لا نتوفر على منابر مرجعية تتحول إلى مدارس، لا تلقن قواعد المهنة فقط، بل القيم الأخلاقية وعلى رأسها حرية التعبير واستقلالية الصحافة”.
وقال يونس مجاهد، رئيس المجلس الوطني للصحافة، بصفته الإعلامية: “احتضنت من الجريدة والحزب (الاتحاد الاشتراكي)، وعلى رأس من احتضنوني محمد البريني مدير الجريدة ومحمد الأشعري مدير مكتب الرباط ومصطفى العراقي رئيس قسم القضايا الوطنية، دعموني بشكل كبير في مساري ولا يمكن أن أنسى دعمهم وسندهم وأخوتهم”.
وتحدث مجاهد عن دفع البريني الجريدة لـ”تجاوز الإكراهات الحزبية، ولو أنه من الحزب”، وقدم مثالا بـ”الملف الصعب لمجزرة 1977″ التي كانت “محاكمة صورية بكل المعاني” لمعتقلي “إلى الأمام”، وهو ما خلق نشره “مشكلا مع الحزب”، إضافة إلى عدد من التحقيقات والقضايا التي “عولجت بجرأة”.
وذكر مجاهد أن البريني قد سعى مع من عملوا معه إلى الدفع نحو “الحقيقة والموضوعية والتواصل مع قضايا المجتمع”، بـ”صحافة حداثية ديمقراطية”، حتى صارت “الجريدة أكبر من الحزب”، كما قال الأشعري، قبل أن توقف “الآلة الحزبية الرهيبة” هذا، لتجعل “الرأي والاستقلالية غير ممكنين”، فانتصرت واضطر الصحافي إلى الانسحاب لما “لم يعد التوفيق ممكنا”.وفي حديث عن كتابة تاريخ الصحافة المغربية، ذكر رئيس المجلس الوطني للصحافة أن الإسهام في هذا الأمر من مسؤولية المجلس؛ ولكن بـ”لجنة علمية بخبراء ومؤرخين”؛ نظرا للحاجة إلى “النزاهة والموضوعية” في المنتج المؤرخ للتجربة الإعلامية بالبلاد.
بدوره، تحدث عبد الله البقالي، رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية مدير نشر “العلم”، عن إشراف البريني على “انتقال أجيال” في الوسط الإعلامي عندما أسس “الأحداث المغربية”، وتطرق إلى ما أثارته من “طابوهات الجنس والدين وغيرها” التي “فتحت النقاش المجتمعي، وأعطتنا في جريدة العلم الحزبية نفسا للكتابة”.
وحول القضايا الكبرى التي كان يواجهها الإعلام بعد الاستقلال من رقابة قبلية، واستمرار للصحافة الاستعمارية… قال البقالي إن هذه مهمة لم يكن ليقدر الصحافيون المنعزلون عن الأحزاب على القيام بها، فقد كانت “تحتاج رجالا ونساء لهم سند، فهم يواجهون مخاطر سياسية وليست مهنية”.
خليل الهاشمي الإدريسي، المدير العام لوكالة المغرب العربي للأنباء، تدخل بصفته صحافيا، واستحضر “شخصية محمد البريني القوية والهادئة، ووقوفه الحقيقي على المبادئ، والتزامه الحقيقي، ومواقفه الحقيقية التي لا يتلاعب بها، وثقافته الديمقراطية العميقة من حوار وتبادل للأفكار ومعرفته لمتى يتراجع تكتيكيا أو استراتيجيا عنها (…) يقيم خاصة الضغوطات السياسية وضغوطات الأجهزة بطريقة ذكية (…) وهو مناضل يساري اشتراكي له فكر تقدمي يعبر عنه بطريقة مفتوحة، وابتلي بالصحافة المستقلة”. وفي حديث عن تجربة قيادة جريدة “الاتحاد الاشتراكي” الحزبية، قال المتحدث إن “الولاء السياسي أحيانا يصطدم مع ذكاء الصحافي والمثقف، وربما القيادات لا تقيم أحيانا هذا وتريد ولاءات عمياء”.
وذكر الهاشمي الإدريسي أنه رغم إمكان مناقشة الإستراتيجية التحريرية لـ”الأحداث المغربية” لما أسسها البريني، فإن “مغاربة اكتشفوا القراءة وعالم الأفكار بها”.كما تطرق المتدخل إلى “معركة تنظيم المهنة” التي أخذت من المكرم “مجهودا كبيرا”، للسعي إلى “كسب المصداقية الجماعية، لنصل إلى كرامة الصحافي، ومسؤوليته أمام الرأي العام”، في ورش “انخرط فيه بنوع من التكتم والتواضع الحقيقي”، دون أن يتقدم بنفسه للظهور، بل “كان هدفه المصداقية”.
وفي استمرار لهذا المسعى، ذكر خليل الهاشمي أنه مع “انهيار النموذج الاقتصادي للمؤسسة الصحافية” يحتاج المشهد الإعلامي المغربي “إبداع نموذج جديد، بعد تبخر القراء، وانعدام للإشهار، وانهيار المؤسسة الصحافية”، مقترحا التفكير في “مؤسسة صحافية غير ربحية”.
أما نور الدين مفتاح، رئيس فيدرالية الناشرين مدير نشر أسبوعية “الأيام”، فتطرق إلى “الاختلافات” في الميدان، التي “لم يستطع إلا البريني جمعها” في لقائه التكريمي بدعوة من مؤسسة منتدى أصيلة، ودعا إلى استثمار هذه اللحظة من أجل “رأب الصدع”.
وفي حديث عن جريدة “الاتحاد الاشتراكي” التي اشتغل بها، ذكر مفتاح أنها كانت “صحافة مناضلين همومهم أكبر من المهنة، والفكرة كانت أكبر، وكان الحديث عن المهنية عيبا”.
وعن دخوله هذه الصحيفة بعد تخرجه من المعهد العالي للصحافة (المعهد العالي للإعلام والاتصال حاليا)، قال المتحدث: “طردت من الخدمة المدنية في وزارة الاتصال، بعد مقال عن “العرنصية” (التعريب والفرنسة) نشر في واجهة جريدة الاتحاد الاشتراكي. وقال لي محمد الصديق معنينو آنذاك: “حنا هنا .. الاتحاد لْهيه” (نحن في جهة، والاتحاد الاشتراكي في جهة أخرى)، فلما قلت هذا للبريني، رحب بي في “لهيه””
ووصف مفتاح البريني بكونه “رائد انتقال مهني” لما أسس “الأحداث المغربية”، مع قيم رافقته هي “التواضع، والعمل بلا حدود، والقيم المهنية التي في عمقها الدفاع عن حرية التعبير”، كما كان “ضمير فيدرالية الناشرين”، وسهر على أوراش مؤسسة، دون حديث عن الأموال بل عن القوانين المنظمة للصحافة، وزاد: “لم أعرف يوما شخصا مرتبطا بالقضية الوطنية مثله (مغربية الصحراء)”.
وتحدث عبد اللطيف بن صفية، مدير المعهد العالي للإعلام والاتصال، عن محمد البريني الذي كان حاضرا في مخيلته، لما كان طالبا صحافيا، ثم باحثا في الإعلام، وكان من “الرموز التي تسكننا” حول “الصحافة الوطنية، ونضالاتها، ومعاركها”.
واستحضر الأكاديمي مسار “أحد رموز الصحافة الوطنية في عصرها الذهبي؛ من أستاذ للغة الفرنسية إلى صحافي متعاون فصحافي محترف ثم إلى أبرز مسؤولي الصحافة الوطنية”.
وتابع بن صفية: “امتزج أداؤه الصحافي والتدبيري ببيداغوجية المدرس والتزام المناضل، تميز بحنكته في تصريف مهامه الإعلامية كمسؤول حزبي، بملاءمتها مع المواقف السياسية خلال تعاقب الحقب والأحداث”.
ثم استرسل قائلا: “محمد البريني، فارس المعارك الصحافية بامتياز. تجلت مشاركته في ملاحم عديدة، كممثل للصحافة الوطنية من جهة أولى، وكممثل لصحافة اليسار المعارض من جهة ثانية، وكممثل للصحافة اليومية المستقلة من جهة ثالثة”، كما تطرق إلى جانبه الروائي، الذي اختار فيه رواية “قصص معاناة الصحافيين وجحيم الصحافة خلال سنوات الرصاص بقالب فكاهي (الطاحونة – قصص من زمن الرقابة)”، فـ”صرامته الظاهرة لا تضاهيها سوى خفة دمه الخفية”.
ورسم الصحافي والباحث جمال المحافظ، منسق اليوم التكريمي، صورة عامة عن حضور البريني في “المحطات المفصلية لتاريخ الصحافة ببلادنا”، من تجربته في التدريس، وإسهاماته القصصية التي كانت أول ما نشره في الصحافة، إلى مساره الإعلامي الذي عين إثره مديرا لصحيفة “الاتحاد الاشتراكي” ليجعلها “تتصدر المشهد الصحافي لمدة عقدين”، علما أنه “مع التزامه السياسي الذي لم يكن يخفيه، لم يرد تحويلها إلى منشور سياسي يبيع صور الزعماء على حساب وظيفة الإعلام”.
لكن، استدرك المحافظ؛ “عدم استيعاب الحزب لدور الصحافة، قاده للمغادرة”، ليأتي تأسيس “الأحداث المغربية” في 1998، وقد كانت في وقتها “مغامرة دون ضمانات، وضعت لبنات مدرسة صحافية”، قبل أن يسجل أن “خبرة أربعة عقود أهلت البريني ليكون أحد رواد المشهد الإعلامي المغربي”، الذين كان لهم “دور طلائعي” في تاريخ الصحافة بالبلاد.
قد يهمك ايضا:
الصحافة المغربية في زمن وباء "كورونا" تعرّف على القصة غير المعلنة
يونس مجاهد يؤكّد أنّه لا بدّ مِن اتّخاذ إجراءات فورية لدعم الصحافة المغربية
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر