الرباط - الدار البيضاء اليوم
مثّلت المدينة القديمة الكائنة بالدار البيضاء درّة التاج المغربي على مدار عقودٍ ماضية، حيث كانت تزخر بكمٍّ هائلٍ من المباني التاريخية التي تجسد واقع التعايش بين اليهود والمسلمين إبان سنوات الحماية الفرنسية، بالنظر إلى أنها ضمّت بين جنباتها جيلاً من الشباب متعدد المشارب وموحدّ الغايات في الآن ذاته.بذلك، كان التاريخ يفوح من المدينة العتيقة لـ"كازابْلانْكا" التي جسدت مدينة التسامح وتلاحم الثقافات، بفعل "الطهر الروحي" و"الصّفاء الأخلاقي" الذي وسَم العلاقة بين الطائفتين اليهودية والمسلمة؛ وهو ما تمثّل من خلال الحي اليهودي، أو ما يُعرف بـ "حي الملاح" الذي كان القلب النابض للمدينة.
وحسب الروايات التاريخية، فقد كان "حي المْلاّح" بالمدينة العتيقة حينئذ عبارة عن سوق لتمليح رؤوس المتمردين وتعليقها في الأماكن العامة من لدن اليهود لردع أي نزعة تمردية لدى الآخرين، خلال الفترتين الموحدية والمرابطية؛ لكن مع أوائل القرن العشرين سيُشيّد الحي اليهودي في "باب مراكش" بالمدينة القديمة.ويحكي حسن لعروس، باحث في التاريخ اليهودي من مواليد المدينة القديمة بالدار البيضاء في ثلاثينيات القرن المنصرم، أن "أغلب المنازل كانت متقاسمة ومشتركة بين المسلمين واليهود، يجمعهم الجوار والعيش المشترك"، مستدركا: "حتى أن بعض الشباب اليهود، على أقليتهم، كانوا يختبئون عند أصدقائهم من الشباب المسلمين ليدخنوا السجائر خِفية يوم السبت، حيث يُحرّم عليهم التدخين طوال النهار".
ويمضي لعروس، من خلال مؤلفه المعنون بـ"المدينة القديمة بالدار البيضاء: ذاكرة وتراث"، بالقول إن "ما زاد في هذا الترابط والتلاحم بين الطائفتين هو ظهور فئة من المُطربين اليهود؛ من بينهم سليم لهلالي وسامي المغربي وألبير سويسا، حيث كانت تتغنى الطبقات الشعبية بأغانيهم، ولقيت صدى واسعاً على الصعيد الوطني"، موردا المثال بأغاني "دور بها يا الشباني" و"اللي تعجب يتبلا" و"العطار يا العطار" وغيرها.لكن حكاية التعايش والتآلف بين اليهود والمسلمين في المدينة القديمة انتهت بطريقة مأساوية غير متوقعة؛ ذلك أن نفي السلطان محمد الخامس دفع المغاربة إلى إنفاذ خيار الكفاح المسلح للضغط على فرنسا بغية عودة السلطان من المنفى في البداية، ثم الحصول على استقلال المملكة في مرحلة لاحقة.
هكذا، يورد لعروس، المهتمّ بتاريخ الدار البيضاء، أن "الكارثة الكبرى والفاجعة غير المنتظرة هزّت المدينة كلها، إثر حادثة الخميس 14 يوليوز 1954، حيث فجّر مقاوم قنبلة داخل حانة لبيع الخمور تملكها أوروبية، تسمى المقهى الكبير لمرس السلطان، أسفرت عن مقتل وجرح مجموعة من أفراد الوجود الفرنسي".الرد الفرنسي كان سريعا على الحادثة، لا سيما أنه تزامن مع احتفالات العيد الوطني، إذ أقدموا على إحراق متاجر المغاربة بساحة "درب عمر"، وفق رواية الكاتب، الذي أشار إلى خروج "الشباب البيضاوي في مظاهرتين؛ الأولى من المدينة القديمة وملحقاتها، والثانية نزلت من درب السلطان وما جاوره".
وفي حديثه عن الكارثة السوداء التي طبعت تاريخ المغرب الحديث، لفت لعروس إلى أن "الصراع احتدم ليل نهار على مدى ثلاثة أيام بلياليها رغم منع التجوال ليلا"، ثم زاد: "في ذلك الظرف الحالِك، جاء المدينة القديمة خبر مفاده أن مجموعة من اليهود المتطرفين شاركوا الوجود الفرنسي في تلك الحوادث المؤلمة".
نتيجة لذلك، يضيف المتحدث، أقدم "مجموعة من أبناء القديمة المتشددين على إخلاء بعض اليهود من منازلهم وإحراقها؛ ما جعل كل اليهود يتخلّون عن مساكنهم، ويشدون الرحيل إلى خارج السور، تاركين حي التناكر والأحياء المحيطة به، كجامع الشلوح وزنقة آسفي وزنقة الصليب الأحمر، ليتم إخلاء القسم الغربي للمدينة القديمة عن آخره من اليهود المغاربة حتى يومنا هذا".
وقد يهمك أيضاً :
تزيين حي الملاح في مراكش بالورود والأشجار ترقبًا لزيارة العاهل المغربي
المستوطنون اليهود يجددون اقتحامهم للمسجد الأقصى المبارك
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر