تصنف المهرجاناتُ السينمائيةُ أفلامَها إلى نوعين رئيسيين: روائي ووثائقي. وتنظم المسابقات وتكتب المقالات وفق هذا التقسيم.
وقد استحدث مهرجان الوطني للفيلم بطنجة مسابقة مستقلة للوثائقي في دورته 21 المنعقدة في مارس 2020. وقد عرفت الدورة عرض 15 فيلما تخييليا طويلا و12 فيلما وثائقيا. فما سمات كل نوع؟
هذا مقال مقارِن بين الفيلم الوثائقي والتخييلي على صعيد أولا: علاقة الواقع والتخييل، ثانيا: مرور الزمن. ثالثا: الكتابة ثم التحضير المتحكم فيه أو التلقائي ورابعا: المونتاج السردي وغير السردي.
الكتابة بين الواقع والتخييل
في الكتابة يتطلب الفيلم الروائي خيالا ويتطلب الوثائقي معرفة وخيالا. يمكن في الفيلم الروائي تلفيق حكاية وتصويرها وحتى حين تكون بلا معنى غير منطقية يبرر ذلك بحرية المبدع. في كتابة الوثائقي لا بد من معرفة عميقة بالموضوع. تملك الموضوع لا تخيله. على الكاتب الوثائقي ملاحظة الواقع وتسجيل ظواهره ويربطها ببعضها لتوليد المعنى. يقول جورج لوكاتش المنظر الأدبي الماركسي المجري:
"إن الحقيقة عيّانية مهما كانت الأيديولوجيا". لذا يحترم التوثيق منطق الأشياء والوقائع التجريبية المعاشة ويخضع للحدس الفطري الذي يرشد المتفرج. في فيلم وثائقي لن تُرضع الذئبة طفلا ولن يهزم الطفل ماوغلي النمر شيركان في الغابة.
يتعامل الفيلم الوثائقي مباشرة مع الواقع، بينما يستخدم الفيلم الروائي الخيال كوسيلة للتعامل مع الواقع الفج. الفيلم التخييلي هو تصوير محاكاة للواقع في مكان وزمان يختاره المخرج، بينما الفيلم الوثائقي هو تصوير للواقع والوقائع أثناء حصولها. في النوع الأول يتم بناء وضعيات دالة فيها وقائع متتابعة اختياريا، بينما في الوثائقي يجب العثور على تلك الوضعيات في الواقع لتصويرها. قد تبنى الوضعيات الأولى في شارع أو استوديو، لكن الثانية ممنوع فبركتها وتصويرها في استوديو.
يهدف التخييلي لتقديم خيال يحاكي الواقع بتكثيفه وترميزه، بينما يهدف الفيلم الوثائقي إلى تقديم صورة عن الواقع، التقاط الراهنية، الإمساك بطزاجة الحياة وجمالية اللحظة، تقديم وجهة نظر موثقة توسّع حقل الوعي.
من أكثر الحيل لتقريب التخييلي من الوثائقي كتابة معلومة في الجنريك تقول "فيلم مقتبس من قصة واقعية" وذلك بزيادة نسبة تصديق المتفرج لما يرى، يشعر المتفرج ب
أنه سيعرف حقيقة وواقعا. آخر مثال هو فيلما كلينت إيستوود، فيلم "سيلي" Sully 2016 وفيلم "حالة ريشارد جويل" 2020 المقتبس عن رواية مكتوبة عن قصة واقعية. واقعة صارت كتابا ثم صارت فيلما. يشعر المتفرج أنه على أرض صلبة. يرتاح في المشاهدة وكأن الفيلم وثائقي.
صناعة مرور وانتظار الزمن
ما الفرق بين الفيلم الوثائقي والفيلم التخييلي على صعيد الزمن؟
في الفيلم التخييلي يقرر المخرج مكان الحدث وزمنه ويختار ديكور زرع الأحداث، ويتم تحضير صناعة المشهد تبعا لما هو مكتوب لتعيشه الشخصيات المتخيلة. أما في الوثائقي فينبغي الذهاب إلى المشهد وانتظار لحظة حدوثه لتصويره وقنصه، التقاط الحدث في ديكوره الواقعي ورصد اللحظة ورد فعل عفوي للأشخاص في عين المكان.
في الفيلم التخييلي يستخدم السيناريست والمخرج ومدير التصوير ومسؤولة الماكياج وعامة الفريق الفني كل طاقتهم، لعرض كيف يمر الزمن وكشف أثره مرحليا على الشخصيات والمكان. يخترعون الليل حتى نهارا. غالبا يستخدم القطع ellipseأو يتم إظلام الشاشة لإخبار المتفرجين بمرور الزمن. لكن يجب أن يكون الفرق والتحول واضحين حين يقارن المتفرج بين حدث ومزاج الشخصيات قبل وبعد القطع. وهكذا ينقذ التغير المتفرج من أن يسبح في نفس اللقطة مرتين.
في الفيلم الوثائقي يجب انتظار حصول ذلك مع امتلاك صبر الرصد طويلا وامتلاك دقة الملاحظة، لرصد أثر مرور الزمن على ملامح الأشخاص. لذلك فإن أفضل الأفلام الوثائقية هي التي تصوّر خلال سنوات.
بطلان.. شخص وشخصية
بطل الفيلم التخييلي شخصية (ممثل) وبطل الوثائقي شخص يعيش حياة حقيقية. عندما يقطع جزءا من أصبعه فهذا جرح حقيقي وليس ماكياجا. عندما يموت البطل (الشخص) في فيلم وثاثقي عن الحرب مثلا فهو يدفن ويحزن المتفرج. عندما يموت الممثل في فيلم تخييلي فإنه بعدها يحضر المهرجانات ليحيي الجمهور.
الفيلم الوثائقي ليس مجرد تصوير محللين يتحدثون في قاعة مكيفة. إنه تصوير أشخاص يعيشون حياتهم الحقيقية بكل حيويتها أو بؤسها.
في التحضير للفيلم التخييلي يقرأ الممثل السيناريو ويتدرب ويعيد ويعدل ليجوّد تقمصه للشخصية. في التحضير للفيلم الوثائقي يتحدث المخرج إلى الشخص الذي سيصوره، يبدأ ذلك ببطء وتردد ثم يتعمق الحوار وتنضج الفكرة، لكن بمجرد إخراج الكاميرا للتصوير تتعقد الأمور.
السبب؟
يحتاط الشخص ويحذر ويتردد وقد يرفض التصوير لأن الكاميرا سكين ذو حدين.
لذا يجب الاستعداد لهذا لأن عمق الفيلم الوثائقي ينبع من مدى حصول المخرج على ثقة بطله (بطلته) ليسمح له بتصوير حميميته بشفافية. بدون هذه الثقة تنغلق الشخصية ولن تفتح روحها للإضاءة أمام الكاميرا، والنتيجة أنه سيتم تصوير قشرة الشخصية لا لبها.
التصوير
أثناء تصوير الوثائقي، لا تتوفر فرصة إعادة اللقطات لذا يجري التصوير بأكثر من كاميرا. هذا أفضل من التصوير بكاميرا واحدة وإعادة تمثيل اللقطات.
خوفا من قلة المادة يجري التصوير بكثافة في الأفلام الوثائقية. وبسبب الارتجال يحصل مصور الوثائقي على لقطات أكثر تصعّب المونتاج.
كثرة المادة لا يعني أن التصوير نجح لأنه يصعب مونتاج الارتجال ولأنه لا يمكن تمرير سبعين رسالة. يكفي التركيز على رسالة واحدة.
المونتاج
مونتاج الوثائقي أصعب من مونتاج الفيلم التخييلي. لماذا؟
في الفيلم التخييلي يوجد سرد يفرض وينظم تتابع اللقطات. يبني كاتب السيناريو التسلسل الذي يملي تتابع اللقطات. مثلا كسر باب سابق على فعل السرقة. هذا التتابع المنطقي يسهل المونتاج.
بينما في الفيلم الوثائقي يجب تحويل لقطات ومقاطع تشبه أعضاء متناثرة إلى هيكل عظمي قادر على الوقوف والمشي على الشاشة لتتبعها عين المتفرج.
النقد السينمائي حول الفيلم الوثائقي نادر
بعد كل هذا تبقى كتابة مقال نقدي عن فيلم وثائقي واقعي أصعب من الكتابة عن فيلم تخييلي. في النوع الثاني ما يكفي من المفاهيم السردية المستعارة من النقد الروائي لتوصيف ما يسرد باعتباره متخيلا. في النوع الأول يجب أن تجد الوقائع توصيفها وتفسيرها في سياق الفيلم الواقعي، مع القدرة على ضفر الفن والسوسيولوجيا في خيط واحد.
إن كتابة نص تحليلي أشبه بإنجاب طفل. ولا يمكن القيام بذلك فجأة في ساعة. ولا يمكن ترقيع الطفل بنقل أعضاء له. تحتاج الكتابة زمنا ليكون تكوين الطفل والمقال عضويا.
وقد يهمك أيضا :
ارتفاع عدد الإصابات المؤكدة بـ"كورونا" في برشيد
رفع الحجر الصحي سينطلق من المدن الخالية من فيروس كورونا
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر