من الغرفة رقم "305" أرّخ الكاتب عبد الله بوصوف لتجربة إنسانية كانت مخاضا ولد إثره ثانية، بعد معاناة مع مرض السّرطان.كتاب "الغرفة 305..مخاض الولادة الثانية تجربة إنسانية مع مرض السرطان"، الذي وقّعه كاتبه عبد الله بوصوف في آخر أيّام المعرض الدّولي للنّشر والكتاب بالدار البيضاء، لا يقتصر على سرد معاناة الصراع مع المرض، بل يحكي ذكريات المرض والاستشفاء، وذكريات طلب العلم، والعمل خارج المغرب وداخله، والطّفولة والعائلة والمحيط المتضامن، وذكريات السّعي في سبيل ردّ الجميل للجالية التي احتضنته في مدينة ستراسبورغ الفرنسية.
ويجمّع هذا العمل الصّادر عن "منشورات ملتقى الطّرق"، الذي "تحوّل كل حقوق التّأليف المترتّبة عن بيعه لفائدة جمعية نجوم لدعم الأطفال المرضى"، تجارب كُتِبَت في مسار الصّراع مع مرض السّرطان، ويقدّم رحلة مقروءة في ذكريات بوصوف وتجاربِه الروحية الذّاتية والجماعية.وينطلق بوصوف في سرد "الذكريات التي لا يملكها بل تملكه" من رغبته الكاسحة وهو نزيل الغرفة رقم 305 في التوفّر على شرفة تطِلُّ على مسجد ستراسبورغ الكبير، وهو المنظر الذي كان سيبدو رائعا طوال مقامه الذي دام شهرين بالمستشفى الموجود في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، لأن ذلك "كان سيخفّف عنه آلام الإبر ووجع الضّمادات حين تتحرّك من مكانها، كما كان الآذان ليكون شفاء لروحه...".
ثمّ يصل الكاتب في نهاية عمله هذا إلى تذكّر دموع فرح مغادرة "قلعة" الاستشفاء، ليشكر عائلته وأصدقاءه والأطباء والممرضين وعمال النظافة، وكل من يدين لهم بدعمهم له...متمنّيا الشفاء للمرضى جميعهم، خاصّة المصابون منهم بأمراض مزمنة.
ورافقت هذا الكتاب الذي يحكي "تاريخ وجغرافية شابّ قادمٍ من الرّيف"، وفق تعبير صاحبِه، رسومات تظهر أفراد عائلته وبعض لحظاته الخاصّة، تنقل "لحظة خلوة مع الذّات"، دوّنَت ذكرياتها ورسائلها بعدما وجد في ذلك بوصوف "تسلية وإبعادا لنفسه عن التّفكير في المرض والتّشخيص والعلاج"، وهو ما كان "تحدّيا شخصيا أوّلا، ونزولا عند رغبة بعض أصدقائه في توثيق تجربة إنسانية مع مرض السّرطان الخبيث ثانيا".وينتقل الكاتب في عمله "الغرفة 305..." بين راهن تشخيصه وعلاجه سنة 2014، وبين ذكريات دراسته العليا أواخر الثّمانينيات وفي سنوات التّسعين، واستعادة "جميل الجالية التي احتضنته بكلّ دفء"، وذكريات احتكاكه بجيل "البُناة" الذي احترف العمل بعيدا عن لغة "شوفوني"، أي "شاهدوني".
ويتذكّر بوصوف "الألم المزدوج" الذي حمله تجاه المرض، وتجاه أفراد عائلته وأصدقائه، ما دفعه إلى "إخفاء نوعه في بادئ الأمر"، قبل أن يقرّ بأنّ من دوافع ذلك أيضا "عدم تحمّله نظرات الشّفقة"، نافيا أن يكون إخفاء إصابته بالسّرطان في بادئ الأمر "نتيجة خوف أو تمسّك بالحياة".هذه التجربة العصيبة لم تكن لتمرّ دون أن يتذكّر عبد الله بوصوف "ذكريات وعكة صحية طويلة المدّة سبق أن ألمّت به إثر حادث سيارة مروع في 1992"، والرّفس والرّكل اللّذين تسبّبا في كسور وجروح لمجموعة من نزلاء السّكن الجامعي بجامعة محمد الأوّل بوجدة، أخذ منها حصّته الكاملة من الرّفس والألم رغم "اعتماره" كتاب تاريخ ضخم في ثمانينيات القرن الماضي.
ولم يخل الكتاب من مقارنة بين ما حدث في الحيّ الجامعي وما لاحظه الكاتب في "الأيّام الحافلة بالمظاهرات والاحتجاجات في أكتوبر 1986 بفرنسا ضدّ "قانون دوفاكيه"، وخلال جلسات محاكمة زعيم الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية جورج عبد الله، وما اعتبره فرقا صادما "بين حرية الطلبة في التّظاهر في باريس أو غيرها … وبين تدخل البوليس في الحرم الجامعي بوجدة".وتذكّر بوصوف في خلوته طموح استكمال دراسته في الخارج حتى بعد تسلّمه رسالة تعيينه أستاذا لمادّة التاريخ بالتعليم الثانوي، رغم انتمائه إلى وسط اجتماعي ضعيف، وحجم تضحية أمّه "الحاجة مينة" التي نفحته صرّة فيها خمسة آلاف درهم، بعدما باعت كلّ حليّها.
واستعاد بوصوف ذكرى أمّه التي لم تكن تتحدّث إلا الأمازيغية بوصفها "شمعة للأمل" بما كانت عليه من حسم في لحظات التردّد، دون أن يستطَيع اختزالها في ذكرى واحدة بعدما أسلمت الرّوح إلى بارئها.وفضلا عن الأثر الجليّ للجالية في ستراسبورغ في ما خطّه الكاتب الذي يشغل اليوم منصب أمين عام مجلس الجالية المغربية بالخارج، تُلمس في الكتاب نفحة عرفان لأثر آخرين، من قبيل المُعَلِّمِ "سي حسن" الذي لم ير فيه مشروعا للهجرة، بل إنسانا يستطيع تحقيق أهداف أرقى وأهمّ مجتمعيّا.
كما تذكّر الكاتبُ العميدَ الشابي الذي سأله وهو أستاذٌ معيّن حديثا عن إمكاناته المادية، ليعطيه إثر صمته الدّالّ كومة من الأوراق كان عليه ملؤها وسهّلت له المنحة التي يسّرت الحصول أربعة آلاف درهم كلّ ثلاثة أشهر، لمدّة أربع سنوات، في وقت كانت قيمة الدّرهم المغربي تفوق الفرك الفرنسي، وكانت تسهّل المنحة الحصول على بطاقة الإقامة الفرنسية دون البحث عن "الضامن"، الذي كان "المسجد" في كثير من الأحيان يوفّره للطّلبة غير الممنوحين.
كما كانت خلوة الغرفة رقم ثلاثمائة وخمسة فرصة لبوصوف لتذكّر أبيه الذي سُرّح بعد عشر سنوات من العمل مع الجيش الإسباني لكثرة اصطدامه بالضباط الإسبان، واتهامه بربط علاقات مع الوطنيّين في ملفّ اختفاء للسّلاح، ليعود لمهنة الفِخارة، وشهد على مساهمة إذاعة لندن ودروس الفقيه المكّي الناصري في تشكيل وعيه السياسي وتوسيع إدراكه الدّيني، وتكلّمه الإسبانية بطلاقة لاحتكاكه بالإسبان، وتعلّمه منهم شيئا من التّمريض، وترويض الخيول، وكثيرا من الطّبخ، قبل التحاقه وهو في عمر السّبعين بالمدرسة العتيقة لتوفّر شرط حفظ القرآن فيه.
ومن بين ذكريات عبد الله بوصوف التي أخذت حيّزا كبيرا من الكتاب، يعكس حجم ما تمثّله بالنسبة له، لحظة تدشين "مسجد ستراسبورغ" الذي شكّل "قنطرة للتّعايش" بما عرفه من تعاون ساهم فيه الجميع، مسلمين ويهودا ومسيحيين وملحدين حتّى... وتذكّره ما رافقه من اعتذار بعض من يعرفهم عن "تشكيكهم في مرحلة من المراحل فيه وفي مصداقيّته وصدق نيّته"، وما مثّله هذا المسجد من حلم طموح للجالية المسلمة في أن يكون "جزءا من المشهد المعماريّ للمدينة (…) لجميع المواطنين لا للمسلمين فقط"، وأن يساهم في "تقريب غير المسلم من قَبول العلاقة مع الإسلام ولو في جانب البعد المرئيّ".
قد يهمك أيضــــــــــًا :
بوصوف يدعو إلى مركز استثمار جهوي خاص بمغاربة العالم
"مجلس الجالية" يدين حرق العلم الوطني بباريس
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر