الرباط - الدار البيضاء
في مثل هذه الأيام قبل 530 عاما، سلم آخر ملوك غرناطة، أبي عبد الله الصغير، مفاتيح الحكم إلى الإسبان بعد توقيعه معاهدة الاستسلام مع الملكين الكاثوليكيين فيرناندو وإيزابيلا، يوم 2 يناير 1492، لتغرب شمس الإسلام عن الأندلس وتنتهي معها الخلافة الإسلامية التي عمَّرت طيلة 8 قرون في شبه الجزيرة الإيبيرية. وعاشت الأندلس خلال حكم المسلمين حضارة مزدهرة على جميع الأصعدة، بلغت خلالها مستوى متطورا في العلوم والاقتصاد والعمران والحياة الاجتماعية، قل نظيره حينها، وأضحت مدنها قبلة للعلماء والأدباء والمثقفين والباحثين والطلاب من مختلف بقاع العالم، في وقت كانت تعيش أوروبا “عصر الظلمات”. ويرى المؤرخ الأمريكي “فيكتور روبنسون” في مقارنته بين الأندلس وأوروبا خلال فترة الحكم الإسلامي، أن أوروبا “كانت في ظلام حالك، في حين كانت قرطبة تضيئها المصابيح، وبينما كانت أوروبا غارقة في الوحل، كانت قرطبة مرصوفة الشوارع، وإننا لنلمس فضل المسلمين وعظيم أثر مجدهم”، وفق تعبيره. وعقب سقوط غرناطة، آخر معاقل الأندلس، عاش المسلمون مأساة تاريخية لأزيد من قرن، بدأت بإرغامهم على اعتناق الديانة المسيحية، وممارسة أبشع أنواع أساليب الاضطهاد والقمع من قتل واغتصاب وقطع للرؤوس وحرق ممتلكاتهم وكتبهم، وانتهاءً بإصدار قرار الطرد النهائي للسكان من أصول مسلمة سنة 1609. وتضمنت معاهدة تسليم غرناطة 67 شرطًا لحماية المسلمين، أبرزها “تأمين المسلمين على أنفسهم وأهلهم وأموالهم، وإبقاء الناس في أماكنهم، وأن تبقى المساجد كما كانت، ولا يُقهر أحد على ترك دينه، وأن يسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا على نفسه وماله”. إلا أن الحكام الإسبان حينها نقضوا كل تلك العهود الموثقة في معاهدة سقوط غرناطة، عبر محاكم التفتيش التي ارتكبوا خلالها أبشع المجارز بحق المسلمين ونهبوا ممتلكاتهم وعلومهم وأحرقوا الجزء الأكبر من كتب حضارة المسلمين بالأندلس.
ويحكي المؤرخ والفيلسوف الإسباني “أنطونيو دي جيبارا”، أن ملك غرناطة أبو عبد الله الصغير، وبعد توقيعه معاهدة الاستسلام، وقف على تلة تطل على غرناطة وهو يبكي، لتسمعه والدته الأميرة عائشة الحرة، وتقول له عبارتها الشهيرة التي دخلت التاريخ: “ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال”. غير أن مؤرخين مسلمين يرون أن هذه الحكاية لم يثبت وقوعها، مرجحين تلفيقها على يد المؤرخ الإسباني “جيبارا” الذي يوصف بكونه الأب الروحي لفكرة “تفوق العرق الأوروبي”، معتبرين أن أبو عبد الله الصغير ظُلم تاريخيا نظرا للظروف الصعبة التي دفعته مرغمًا لحمل راية عار سقوط الأندلس. وفي العصر الحديث، يقوم الإسبان بالاحتفال بما يعتبرونه “استعادة الأندلس”، عبر مناسبتين، الأولى في ذكرى سقوط غرناطة يوم 2 يناير من كل عام، والثانية في 20 يوليوز من كل سنة في ذكرى معركة “العُقاب” التي جرت عام 1212، واعتبرت أول خسارة كبرى للمسلمين في الأندلس، وشكلت نقطة تحول مفصلية في سقوط الأندلس. ففي ذكرى معركة “العُقاب”، يتم تنظيم كرنفال رسمي يحمل خلاله جنود عسكريون إسبان الراية الأصلية لجيش المسلمين في معركة “العُقاب” التي خسرها السلطان محمد الناصر قائد جيش الموحدين، وهي راية تحمل آيات قرآنية ورموزا إسلامية. وخلال السنتين الجارية والماضية تم إلغاء هذه الاحتفالات بسبب فيروس كورونا.
توهج حضاري
عُرف الأندلسيون بولعهم الشديد بالعلوم والثقافة والفنون، وتمكنوا من تحقيق اكتشافات علمية هائلة حينها، برز خلالها علماء ومفكرون سطعت أسماءهم عالميا، ولا زال العلم الحالي يستفيد من إنتاجاتهم المعرفية، خاصة في مجالات الرياضيات والعلوم الطبيعية والطب والكيمياء والفلسفة والدين. ومما تحكي كتب التاريخ، أن الأندلس كانت من أكثر مناطق العالم من حيث عدد المكتبات والمدارس ودور التجارب العلمية وفضاءات الفقه والمعرفة والتناظر الفكري، كما عُرف عن أهلها شدة حرصهم على الأناقة والنظافة لدرجة أن الأولوية تُعطى للصابون على حساب الخبز أحيانا. وضم المجتمع الأندلسي مختلف الديانات التي استطاعت أن تتعايش بينها في سلام ووئام، حيث احتل اليهود مكانة رفيعة في الحكم والمعرفة والاقتصاد، جنبا إلى جنب مع المسلمين، الأمر الذي جعل الأندلس مضرباً للأمثال في التسامح والتعايش الإنساني المشترك. وفي المجال الاقتصادي، ازدهرت التجارة والصناعة بشكل لافت، حيث كانت الأندلس تضم مصانع للأسلحة والمناجم والملابس والزرابي إلى جانب الإنتاج الفلاحي، الأمر الذي جعل موانئها البحرية تعرف حركية اقتصادية ضخمة، تحولت خلالها الأندلس إلى سوق دولية لتنقل السلع والبضائع برا وبحرا.
وعلى المستوى العمراني (البنية التحية)، شيدت الأندلس مختلف المرافق الحيوية والخدمات العمومية والخاصة على طراز رفيع من الهندسة العمرانية الإسلامية، منها القصور الفخمة والمساجد والمستشفيات والحدائق والجسور والمباني الرفيعة، لا زال أطلال عدد منها قائما إلى اليوم، ويقصدها السياح من كل بقاع العالم. المؤرخ والكاتب الفرنسي غوستاف لوبون، يقول في كتابه “حضارة العرب في الأندلس”، إن “حضارة العرب المسلمين أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا، وإن جامعات الغرب لم تعرف مورداً علمياً سوى مؤلفات العرب، فهم الذين مدنوا أوروبا مادة وعقلا وأخلاقا، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه”. ويضيف: “إن أوروبا مَدينة للعرب بحضارتها، وإن العرب هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان، ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبةً”، وفق تعبيره.
من الازدهار إلى السقوط
الأندلس التي فتحها القائد الأمازيغي الشاب طارق بن زياد عام 711 للميلاد بعدما كلفه بالمهمة القائد موسى بن نصير، أصبحت تحت الحكم الأموي بعد انتصار المسلمين في معركة “جواد ليتي”، ليبدأ عهد جديد للإسلام بشبه الجزيرة الإيبيرية، تحولت معه الأندلس إلى أكثر مناطق العالم تحضرا. وكاد المسلمون أن يفتحوا فرنسا لولا هزيمتهم في معركة “بلاط الشهداء” التي وقعت بين مدينتي بواتييه وتور الفرنسيتين، وهي المعركة التي وضعت حدا لفتوحات المسلمين الذين كادوا يصلون إلى باريس، قبل أن يضطروا إلى الانسحاب والعودة للأندلس بعد مقتل قائدهم عبد الرحمن الغافقي. غير أن سقوط الخلافة الأموية أدخل الأندلس في حالة من الفوضى، حيث قامت عدة طوائف وعائلات نافذة بإعلان استقلال مدنها، لتتمزق الأندلس منذ عام 995 للميلاد إلى 21 دويلة ضمن فترة “ملوك الطوائف”، وهي الدويلات التي تصارعت فيما بينها من أجل الحكم على فترات مختلفة، وفق المصادر التاريخية. وشكل سقوط مدينة طليطلة عام 1082 في قبضة الممالك الإسبانية الذين انتهزوا خلافات المسلمين لبدء معركتهم، بداية لمظاهر الضعف والوهن في بيت الحكم الإسلامي بالأندلس، وإعلانا ببدء سلسلة معارك الإسبان للاستيلاء على المدن الأندلسية، إذ تضاءل حكم المسلمين حتى انحصر في مملكة غرناطة، إلى أن سقطت في 1492.
فطيلة 4 قرون، استطاعت الممالك المسيحية ضمن ما أسمته بـ”حروب الاسترداد”، تحقيق انتصارات متتالية على المسلمين، بدءا من سقوط بامبلونا بشمال إسبانيا عام 748، مرورا ببرشلونة عام 985، ثم سنتياغو سنة 997، وبعدها بـ5 أعوام سقوط مدينة ليون، تلتها مدينة سلمنقة عام 1055، وقلمرية عام 1064، ومدريد عام 1084. ورغم تدخل القائد المغربي يوسف بن تاشفين، مؤسس دولة المرابطين، وموافقته على طلب الأندلسيين بإرسال قوات عسكرية لوقف زحف الإسبان، حيث حقق المرابطون انتصارا كبيرا في معركة “الزلاقة” عام 1086، إلا أن طليطلة ظلت في يد الإسبان، قبل أن يتأزم الوضع مع سقوط مدينة سرقسطة وما تلاها من انهيار حكم المرابطين بالأندلس. وشهد عام 1212 معركة موجعة للمسلمين بالأندلس تحت حكم الموحدين، عقب هزيمتهم في معركة “العُقاب” التي يعتبرها الإسبان واحدة من أهم انتصاراتهم التاريخية، وهو ما سرع من عملية “السقوط الكبير” للمدن الأندلسية تباعًا، انتهاءً بالسقوط المدوي والنهائي للحكم الإسلامي باستسلام غرناطة، آخر معاقل المسلمين، يوم 2 يناير 1492.
ورغم سقوط كامل تراب الأندلس، إلا أن مطامع المماليك الإسبان لم تتوقف، إذ حاولوا غزو شمال إفريقيا عبر عدة معاركة، وتمكنوا من السيطرة على مدينة مليلية المغربية في نفس سنة سقوط غرناطة، فيما كان البرتغاليون قد سيطروا قبل ذلك على مدينة سبتة عام 1415، وهما المدينتان اللتان لا تزالان تحت سيطرة إسبانيا إلى اليوم. ويُرجع المؤرخون أسباب هذه الهزائم التي أدت إلى سقوط الأندلس، أساسا إلى نزاعات الحكم بين المسلمين وتحالف بعضهم مع المماليك الإسبان، وهي النزاعات التي أخذت أبعادا دموية وأزهق أرواح الآلاف في كثير من المواقع، إلى جانب انشغال الحكام وعلية القوم بأمور اللهو والترف والبذخ على حساب تقوية وحدتهم وتعزيز قدراتهم العسكرية.
المأساة الموريسكية
لم تنتهي مأساة الأندلس بسقوط آخر معاقلها غرناطة، بل استمرت لعقود بعد السقوط ضمن ما يعرف بالمسلمين المدججين أو “الموريسكيين”، وهم المسلمين الأندلسيين الذين فُرض عليهم اعتناق الديانة المسيحية، في فترة مؤلمة من تاريخ المسلمين استمرت لعقود طويلة. وعرفت عملية تنصير الموريسكيين 3 مراحل بعد سقوط الأندلس، تمثلت المرحلة الأولى في التنصير القسري لسكان غرناطة أواخر عام 1499 بعد انتفاضة حي “البيازين” بالمدينة ذاتها، وما تلاها من ثورات في كل مملكة غرناطة، واجهها الإسبان بحملة قمع شرسة، وصلت إلى حد استرقاق سكان بعض المناطق وتخيير آخرين بين اعتناق المسيحية أو الطرد. وزادت قوة عملية التنصير بعد إصدار مرسوم ملكي عام 1502 يفرض فيه الملكان الكاثوليكيان التنصير على كل مسلمي مملكة قشتالة وليون أو الطرد، لينتهي عصر المسلمين بعد عام 1526، ويتحول اسمهم إلى “المسيحيون الجدد”، أو “المهتدون الجدد”، حيث ظلوا يمارسون شعائرهم الدينية وعاداتهم الاجتماعية سرا.
غير أن الأوامر الملكية صدرت من جديد لمحاصرة كل ما له صلة بالدين الإسلامي، وصدرت أحكام بقمع كل من يخالف تعاليم الديانة الكاثوليكية بشكل رهيب، حيث ترسخت لدى الإسبان قناعة بأن “المسيحيين الجدد” ما هم إلا مسلمون في الخفاء يتظاهرون بالنصرانية، ليبدأ الاسم الشهير “الموريسكيون” في تسمية المسلمين المنصَّرين بالإكراه، وهي كلمة تحقيرية وتصغيرية لمصطلح “مورو” الذي يعني “المسلم”. وتشير الأبحاث والكتابات الإسبانية في الموضوع، إلى أن الموريسكيين استعملوا حِيَلا وأشكالا مبدعة في مقاومة حملة القمع والاضطهاد الشرسة ضدهم، من بينهما أن الأسر المسلمة كانت ترسل نفس الطفل إلى الكنيسة يوم الأحد ليتم تعميده (طقس كاثوليكي) حينما كان الحاكمون يرغمون المسلمين على تعميد مواليدهم الجدد بشكل قسري، فيما كانت الأسر تغسل الأطفال ليلا من أجل تطهيرهم من “النصرانية” المفروضة. كما كان الموريسكيون يخبئون الكتب العلمية والدينية داخل جدران منازلهم أثناء بنائها، مخافة إحراقها في الساحات العمومية، حيث ارتكب الإسبان محرقة تاريخية بحق كتب المسلمين، خاصة في ساحة “باب الرملة” الشهيرة، باستثناء كتب العلوم والطب التي كانت تُرسل إلى قلعة “إناريس” ليستفيدوا منها.
وفي هذا الصدد، يشير الكاتب المغربي طارق الريسوني في كتابه “المأساة الموريسكية من التنصير إلى التهجير”، إلى أن المحنة الموريسكية كانت في مدة زمنية قصيرة تراوحت ما بين 110 إلى 120 عاما، لكنها كانت حافلة بعدة وقائع مهمة جدا، معتبرا أن التفكير الإسباني حينها كان هو نفسه تفكير القرون الوسطى الذي يحرض على عدم التعايش بين دينين اثنين في دولة واحدة. الكاتب وهو طبيب جراح للأسنان، يوضح أن الأندلسيين لم يفرطوا في بلادهم ولا دينهم رغم كل أشكال الاضطهاد والقمع، خاصة وأن إسبانيا كانت حينها أكبر قوة بأوروبا، قائلا”رغم كل ما فعلته إسبانيا لاجتثات الموريسكيين فإنها لم تنجح، وما استطعت فعله هو جعلهم يعيشيون عيشة متخفية، لأن الإسلام يظل في القلوب دوما”. ويضيف: “عوملوا معالمة وحشية بعدما تم تشتيتهم في كل أرجاء إسبانيا في بداية الأمر، قبل أن يبدأ العد العكسي للطرد النهائي في أكبر عملية طرد لأسباب دينية، ورغم هذا الطرد لم ينتهي الوجود الإسلامي هناك، فالموريسكيون لم يعرفوا أرضا غير الأندلس التي هي بلادهم، ولم يعرفوا دينا غير الإسلام الذي هو دينهم، لأن الإنسان الذي يحب دينه ووطنه يفعل كل شيء للحفاظ على ذلك”.
قد يهمك ايضاً
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر