لندن ـ سليم كرم
تدور حرب كلامية الآن بشأن التقرير الإسرائيلي الذي يشكك في وفاة الطفل الفلسطيني محمد الدرة الذي استشهد في الصدامات التي جرت في غزة يوم 30 أيلول/ سبتمبر من العام 2000، والذي أكد والده مقتله على أيدي القوات الإسرائيلية، نافيًا المزاعم الصهيونية التي جاءت في التقرير الإسرائيلي الأخير.
ونشرت صحيفة "غارديان" البريطانية تحقيقًا تناولت فيه هذا الموضوع، وأمام
مقبرة محمد الدرة وقف والده جمال الدرة يتلو بعض آيات القرآن الكريم على روح ابنه، وبعد الانتهاء من ذلك قال "إن إسرائيل تزعم أن ابني لم يمت" وتساءل "هل تستطيع أن تتخيل تأثير ذلك على مشاعر أب فقد ابنه؟"، وقال أيضًا "إنهم يمتلكون الوسائل التكنولوجية كافة في العالم ويقولون إنه لم يمت، وإذا كان ذلك صحيحًا فعليهم أن يأتوا به إليّ".
وتجددت الحرب الكلامية بشأن مقتل الطفل محمد الدرة، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 12 عامًا، هذا الأسبوع، في أعقاب صدور تقرير إسرائيلي رسمي يزعم بأن فيلم مقتل محمد الدرة كان ملفقًا ومختلقًا، وكان الهدف منه التحريض على الإرهاب.
ويشير التقرير الذي تم إعداده بتكليف من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي قام بالتصديق على ما توصل إليه من نتائج، إلى أن الواقعة بأكلمها كانت واقعة مسرحية ملفقة، وأنها كانت عملاً دعائيًا، وأن محمد الدرة لم يقتل ولم يتعرض لأي إصابه.
وطعن في صحة هذا التقرير كل من جمال الدرة والمصور طلال أبو رحمة الذي قام بتسجيل المشهد والواقعة بكاميرته وقناة "فرانس 2" التليفزيونية التي قامت بإذاعته، وأحدثت بذلك صدى عالميًا واسع النطاق.
وتحول مشهد انكماش الأب وابنه وراء عمود خرساني في ركن من أركان الشارع وسط النيران الكثيفة، وصرخات الطفل من الرعب قبل أن ينهار في حجر أبيه، إلى رمز للانتفاضة الفلسطينية التي بدأت بعد ذلك بوقت قصير، وقد أعيد استنساخ صورة المشهد في الملصقات الإعلانية واللوحات الجدارية في انحاء العالم العربي كافة ،كما استشهد بها تنظيم "القاعدة" في أعقاب هجمات 11/9 التي استهدفت الولايات المتحدة.
وكان هذا المشهد موضوع ما وصفه التقرير الإسرائيلي بـ "معركة تليفزيونية" تفوق في أهميتها المعارك العسكرية.
ويحاول أنصار إسرائيل التشكيك في صحة الفيلم الذي أذاعه التليفزيون الفرنسي. وعلقت قوات الدفاع الإسرائيلية في بيان لها في أحد المؤتمرات الصحافية بالقول إن "الصبي كما يبدو بوضوح قد تعرض لنيراننا".
وتعود الصحيفة البريطانية بالذاكرة إلى يوم الواقعة وهو يوم 30 أيلول/ سبتمبر من العام 2000 عندما خرج الأب وابنه من مخيم البريج شمال غزة إلى سوق السيارات في القطاع من أجل شراء سيارة مستعملة، وفي تلك الأثناء كان قطاع غزة حافلاً بمراكز ونقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية المحصنة وأبراج المراقبة، بهدف حماية 21 مستوطنة يهودية.
وعاد الأب وابنه بعد الفشل في شراء السيارة المستعملة ولدى وصول التاكسي الذي كان يقلهما إلى نقطة نتساريم العسكرية التي تفصل بين شمال وجنوب قطاع غزة، وهي نقطة كثيرًا ما تشهد مصادمات بين قوات الجيش الإسرائيلي والشباب الفلسطيني، بدأت الاضطرابات، وعندئذ رفض سائق التاكسي المخاطرة بعبور المنطقة وهنا خاطر جمال وابنه بعبور الطريق مشيًا على الأقدام.
واحتمى الأب وابنه مع بدء التراشق بالنيران بكتلة خرسانية قريبة من الطريق.
ويتذكر جمال الدرة تلك اللحظة ويقول في حوار له مع صحيفة "غارديان": "لقد حاولت الاختباء وراء كتلة إسمنتية وكنت أرفع رأسي وألوح بيدي طالبًا منهم التوقف عن إطلاق النار، وكنت في تلك اللحظة أرى الجنود الإسرائيليين في برجهم، ولكنهم لم يتوقفوا عن إطلاق النار".
وأضاف أنه لم يكن يفكر آنذاك إلا في شيء واحد وهو كيفية حماية ابنه الذي أصابه الفزع والهلع، وعندما تعرض لأول رصاصة قال له "لا تخف. سيارة الإسعاف سوف تأتي"، وكان الطفل يرد عليه بقوله إنه ليس خائفًا، وكان يطلب من والده ألا يخاف.
وتابع الأب أنه عندما سقط الطفل في حجره أدرك لحظتها أنه مات. وأضاف "لقد مرت تلك الثواني كأنها ساعات بل أيام".
وانفعل جمال الدرة بشدة عندما حاولت الصحيفة الضغط عليه كي يتذكر توقيت وتسلسل وقائع الحدث آنذاك، وقال إنه لا يستطيع تذكر التفاصيل التي جرت في تلك اللحظة التي كانت حافلة بالاضطراب والرعب والهلع.
وعانى الأب وابنه من طلقات النيران التي استمرت 45 دقيقة متواصلة، والتي انتهت بمقتل ابنه، وإصابته هو بحروج خطيرة.
وتم نقل الأب والابن لاحقًا إلى دار الشفاء في غزة، وهناك أكد الصحافيون المحللون في إصرار أنهم شاهدوا جثة الطفل في المشرحة.
وقامت السلطات الأردنية بنقل الأب إلى إحدى المستشفيات في عمان، حيث ظل هناك مدة ثلاثة شهور للعلاج من الإصابات التي تعرض لها في الحادث.
وقامت مراسلة "غارديان" سوزان غولدنبرغ في أعقاب الحادثة مباشرة بزيارة المكان الذي شهد الواقعة، وكتبت آنذاك تصف الحادث وتقول بوجود "دائرة فيها 15 ثقبًا نتيجة طلقات الرصاص على جدار إسمنتي، كما كان المكان ملطخا بدماء داكنة. وبالإضافة إلى الفجوات التي أحدثتها طلقات الرصاص، والتي كان غالبها بارتفاع يقل عن مستوى خصر الإنسان، بدا واضحًا أن نطاق الجدار بصورة عامة لم يتعرض لضرر، الأمر الذي يعني أن النيران الإسرائيلية كانت تستهدف الأب وابنه".
ونسبت غولدنبرغ إلى أحد رجال الإسعاف الذين حضروا المشهد قوله "لقد كانت هناك بقية من أنفاس محمد الدرة لحظة وصول سيارة الإسعاف، ولكن وعندما قمنا بفتح أبواب سيارة الإسعاف بدأ الإسرائيليون في إطلاق النيران، والتي على أثرها لقي سائق سيارة الإسعاف مصرعه".
وأدلى مصور قناة "فرانس 2" أبو رحمة في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر العام 2000 بشهادته التي قال فيها "أستطيع أن أوكد أن النيران التي أطلقت على الطفل محمد الدرة وأبيه جمال قد جاءت من جانب النقطة العسكرية الإسرائيلية، وأن هذا الجانب كان هو الجانب الوحيد الذي كان يمكن أن يتعرض منه الطفل وأبيه للنيران ، ومنطقيًا وبطبيعة الحال، ومن خلال خبراتي الطويلة في تغطية الأحداث الساخنة والصدامات العنيفة، ومن خلال قدرتي على تمييز أصوات الطلقات النارية، أستطيع أن أؤكد بأن الجيش الإسرائيلي قد قتل الطفل عن عمد وبدم بارد وأصاب والده".
لكن التقرير الإسرائيلي الأخير يطعن في صحة هذه الشهادات، ويعتمد على شهادات الجيش الإسرائيلي وتحليلات المشهد والتقارير الطبية.
وتقول نتائج التقرير "إنه وعلى عكس ما جاء في تقرير قناة "فرانس 2" الذي يقول إن الطفل لقي حتفه، فإن تقرير اللجنة توصل إلى أن المشاهد الأخيرة في الفيلم، والتي لم يعرضها التلفزيون الفرنسي تشير إلى أن الطفل كان حيًا، كما توصل التقرير إلى عدم وجود دليل على تعرض كل من الأب وابنه للإصابة بالطريقة التي وصفها تقرير القناة التليفزيونية، كما أن الفيلم لا يدل على أن الإصابة التي تعرض لها الأب كانت جسيمة، بل على العكس من ذلك هناك الكثير من المؤشرات الدالة على أن الاثنين لم يتعرضا لأي طلقات نارية على الإطلاق".
ويضيف التقرير الإسرائيلي "أن الثواني الأخيرة من الفيلم تكشف عن قيام الطفل محمد الدرة بتحريك ذراعه وتحريك رأسه في اتجاه حامل الكاميرا، بما يعني أنها حركات متعمدة وواعية".
ويصف التقرير تصريحات المصور أبو رحمة، وكذلك رئيس مكتب القناة الفرنسية "فرانس 2" في القدس تشارلز إندرلين، وتصريحات جمال الدرة وطاقم أطباء المستشفى بأنها "مليئة بالتناقضات والتضارب والأكاذيب".
ويزعم التقرير الإسرائيلي أن جثة الطفل في المشرحة والجثة التي ظهرت في الجنازة تختلف في ملامحها البدنية عن الطفل الذي ظهر في فيلم "فرانس 2".
يذكر أن اللجنة الإسرائيلية التي أعدت التقرير لم تتصل بجمال الدرة أو أبو رحمة أو تشارلز إندرلين خلال التحقيقات التي أجرتها على مدى ثمانية أشهر.
وقالت وزارة الاستخبارات والشؤون الدولية الإسرائيلية في بيان بعثت به إلى صحيفة "غارديان": "إن اللجنة طلب معلومات ومواد من قناة فرانس 2 عن طريق السفير الفرنسي في إسرائيل، كما أن اللجنة قامت بمراجعة عشرات المقابلات والتصريحات والروايات المكتوبة بشأن الحادث منذ الحادث وحتى اليوم".
وردًا على البيان قال تشارلز إندرلين أنه "لم يتلق أي شيء من الخارجية الفرنسية، وإذا كانوا يريدون الاتصال بي فأنا موجود في القدس، ولدي المحامي الخاص بي، وليس هناك حاجة للجوء إلى السفير الفرنسي، ولقد سبق وأن قلنا إننا على استعداد للتعاون مع أي لجنة تحقيق مستقلة تعتمد على المعايير الدولية".
وقال الثلاثة أيضا إنهم كانوا على استعداد للشهادة أمام أي لجنة تحقيق دولية مستقلة، كما قال جمال إنه على استعداد لاستخراج جثة ابنه، وتحليل الـ "دي أن إيه"، الحمض النووي الخاص به.
وأضاف المصور أبو رحمة أن كاميرته لا تكذب، وأنه غير مندهش مما توصلت إليه اللجنة الإسرائيلية من نتائج، لأنها تعمل لحساب لمصلحة إسرائيل.
وقال أبو رحمة الذي عمل أيضًا من قبل لدى شبكة "سي إن إن" إنه لم يسبق لأحد من قبل أن اتهمه بالتحيز.
ورفعت منظمة مؤيدة لإسرائيل دعوى تشهير ضد قناة "فرانس 2"، وزعمت بأن واقعة الدرة مفتعلة ومسرحية، ومن المنتظر أن يصدر الحكم في هذه القضية يوم 26 حزيران/ يونيو المقبل.
وقال جمال الدرة إنه لم يشاهد الفيلم قبل مرور شهرين من الحادث، وأضاف أن إسرائيل تكذب، وتحاول أن تطمس الحقيقة، ولكن الحقيقة ظاهرة بوضوح لدرجة يصعب معها طمسها.
وعلى الرغم من حزنه على ابنه يؤكد جمال أنه لا يكن أي كراهية للشعب الإسرائيلي، وقال "أنا لا أكره إسرائيل ولكني أكره الاحتلال فأنا مع السلام وضد الحرب، ولا أرغب في أن يخسر الآخرون أبناءهم".
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر