الرباط ـ الدارالبيضاء اليوم
طالما لعبت المؤسسة الملكية الإسبانية دور الوسيط في العلاقات بين مملكتي مضيق جبل طارق، وهي الوساطة التي أرسى أسسها الملكان خوان كارلوس والحسن الثاني؛ فالملكة صوفيا، عقيلة خوان كارلوس، حكت مطولا في مذكراتها التي خطتها الصحافية الإسبانية بيلار أوربانو عن تلك العلاقة الخاصة التي جمعت بين الملكين، “فأحيانا كانا يتواصلان عبر الهاتف فجرا وتنتهي المسألة”، تقول الملكة.
والحقيقة أن أية حكومة إسبانية تقودها صناديق الاقتراع إلى السكن بقصر المونكلوا كانت تعلم أن المؤسسة الملكية ورقة ناجعة في حل أية مشكلة طارئة مع المغرب، لا سيما أن صبيب المشاكل لا يتوقف بدءا بالهجرة مرورا بالصحراء ثم سبتة ومليلية يحاول بيدرو سانشيث، رئيس الحكومة الإسبانية، اليوم، أن يجرب جميع الوصفات الممكنة ليضمن “نهاية سعيدة” للأزمة مع المغرب. لذلك، أخرج من جيب سترته آخر الأوراق التي يملكها ليتوقف المطر، بعدما وجد نفسه يجدف وحيدا ضد التيار داخل القارة العجوز؛ فألمانيا التي راهن عليها طيلة الأشهر الماضية للتمترس خلف جدرانها الفولاذية لمحاصرة المغرب والضغط عليه داخل أروقة الاتحاد الأوروبي ، فاجأته بموقفها الذكي والبرغماتي، فيما معاول اليمين تنهال عليه بالضرب وتشير إلى مسؤوليته في تخريب العلاقات مع شريك إستراتيجي لا محيد عنه في تحقيق مصالح إسبانيا الحيوية. كما أنه لم تعد حبات الأسبرين التي يوزعها مانويل ألباريس على ساسة اليمين خلال جلسات البرلمان تنفع في تهدئة ما يخلفه هذا الموضوع من صداع.
يعلم سانشيث قيمة المؤسسة الملكية الإسبانية ووضعها الاعتباري لدى المغرب، لكنه هنا ظلمها ثلاث مرات، ظلمها أول الأمر عندما منع الملك فليبي السادس من القيام بأية وساطة في بداية أزمة استقبال زعيم البوليساريو وترك العنان لرعونة وزيرة خارجيته السابقة أرنتشا غونزاليث لايا في تدبير الأزمة التي جرت البلدين إلى عبور واحدة من أحلك الفترات، وظلمها للمرة الثانية عندما فرض توشيح صانعة الأزمة مع المغرب السيدة غونزاليث لايا بأرفع وسام تمنحه الدولة الإسبانية وكأنه يكافئها على كل الخراب الذي زرعته في حقل العلاقات، وظلمها للمرة الثالثة عندما خط وزير خارجيته مانويل ألباريس بيانا وطلب من الملك أن يقرأه، وهو يراهن على أن تدغدغ كلمات الجالس على عرش إسبانيا مشاعر الجيران، فتطوى الأزمة دون أن تقدم مدريد على أية مبادرة أو تخفض من درجة عدائها الممارس يوميا تجاه الوحدة الترابية للمغرب.
يبدو أن لوحات التخفيضات التي يشاهدها سانشيث هذه الأيام معلقة على واجهات المحلات التجارية المدريدية ربما شوشت ذهنه وجعلته ينظر إلى مشكلته مع المغرب من زاوية موسم التخفيضات، فهو يحاول أن يحل الأزمة؛ لكن بأرخص الأسعار.
لنعترف بأن قضية الصحراء بإسبانيا هي عقدة نفسية لدى رجل الشارع والنخبة أكثر منها مجرد قضية سياسية، هذه الحمولة النفسية يجب أن نستحضرها عند طرح مواقف إسبانيا وتصرفاتها إزاء ملف الصحراء، ومنها أنها دائما أرادت أن تجد لها موطئ قدم بالملف بطريقة من الطرق ولو بأضعف الإيمان مثل تخصيص طائرة تحمل علمها لحمل المبعوثين الأمميين خلال جولاتهم في المنطقة بحثا عن حل. والواقع أن مدريد تساهم فعليا في إطالة أمد تحقيق هذا الحل، عبر دعمها المباشر للجبهة الانفصالية ماديا وإعلاميا وسياسيا، وهي اليوم تجد نفسها في وضعية “بلوكاج” بعدما تخلى عنها حلفاء الأمس الذين لاءموا مواقفهم مع التطورات الجديدة، فيما أصيبت هي بتصلب حاد في شرايين أقدامها ولا تريد التقدم خطوة واحدة إلى الأمام.
تطبق إسبانيا هذه الأيام منطق الالتفاف والدوران للخروج من أزمتها مع المغرب، ومن هذا الالتفاف تفعيلها لوساطة متأخرة للمؤسسة الملكية الإسبانية، وكذا تحليق السينيور ألباريس بلا حقائب إلى واشنطن للقاء نظيرة الأمريكي أنتوني بلينكن. وبعد اللقاء، نجده يرسل رسالة إلى الرباط عبر وكالة أوروبا بريس ليقول للرباط إنه اتفق مع بلينكن على التسريع بإيجاد حل لقضية الصحراء، وفي التصريح نفسه فضحته زلة لسانه عندما قال إن الآلاف ينتظرون حلا لهذا الملف، والحال أن 40 مليون مغربي ينتظرون جميعهم هذا الحل وليس فقط الآلاف الذين أحصتهم مخيلة السينيور ألباريس، ألم أقل إنها عقدة نفسية.
لقد حسمت الولايات المتحدة تحالفاتها بالمنطقة، وما كان يحلم به سانشيث وفريقه بخصوص تغيير واشنطن لمواقفها بشأن اعترافها بمغربية الصحراء بمجيء بايدن كان مجرد أضغاث أحلام، مثلما أن “إهانة” اللقاء الوهمي بين سانشيث وبايدن الذي تحول إلى عشرين ثانية من المشي السريع كانت كافية لتزيل الغشاوة؛ فمدريد لم تقم بحشر أنفها في مسلسل إيجاد حل لقضية الصحراء إلى جانب واشنطن إلا بعدما تأكدت من مكانة المغرب لدى سكان البيت الأبيض، وهي تحاول اليوم بيع الوهم في قارورات ذهبية والدخول إلى الرباط عبر بوابة واشنطن ممتطية صهوة تصريحات غامضة.
لم يخبرنا السينيور ألباريس كيف سيتعاون مع واشنطن المعترفة بمغربية الصحراء والتي كان موقفها سببا رئيسيا في اندلاع الأزمة الحالية، وكيف سيفعل؟ وهو يركض يمينا وشمالا حتى يجني مصالحة مع المغرب لا تمر بالضرورة عبر تغيير مواقف مدريد وعدائها المعلن للوحدة الترابية للمغرب، وكأني برئيس الحكومة عزيز أخنوش يرد بشكل مباشر على سانشيث وألباريس في حواره مع القناتين الأولى والثانية عندما أجاب عن سؤال حول السياسة الخارجية للمغرب بتوظيف كلمتين سحريتين هما: الوفاء والطموح، وشرح بأن بناء العلاقات الطموحة التواقة لتحقيق مصالح كبرى مع أية دولة يجب أن يرافقه الوفاء، والوفاء يشمل قضية الصحراء. فهل كانت إسبانيا وفية للمغرب في ملف الصحراء طيلة السنوات الماضية، وهي الشريك التجاري الأول للرباط منذ عام2013؟ . أنتم تجيبون، أيها السادة.
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر