بقلم د.عدنان الظاهر
هذه قصة مثيرة ولها فرادتها،نعم، هذه قصة أخرى مغايرة بالجملة والتفاصيل لما كنا قد قرأنا في قصة " حيثُ البحرُ لا يُصلّي " للقاصة نفسها وفي المجموعة القصصية نفسها *. قلتُ هنا رومانس عاصف وبوح واضح صارخ وتعبيرات عن حرمانات متراكمة مُزمنة عالجتها الدكتورة سناء الشعلان بكل جرأة وأمانة والكثير من التحدي للأعراف وهذا منحى ليس جديداً فلقد قرأنا لها ما هو أكبر مما قالت في هذه القصة ولا سيّما في روايتها المثيرة للجدل " أعشقني " وكنتُ أول من كتب عنها بعد صدورها مباشرة. مداخل وبواطن القاصّة غير عصيّة على الانفتاح أمامَ مَنْ واكب كتابات القاصة وسبر أغوارها درساً وتحليلاً ولفترة تناهز العشرة أعوام والزمن ضوء كشّاف ومسبار خبير وله عيون. أحسب أنَّ هذه القصة هي قصة حبّ خياليّة مفترضة لبطلة القصّة.
نقرأ في الصفحة الأولى من القصّة ما يلي :
(( تضجُّ أصواتُ الغابة ونداءات الطبيعة وغريزة الاشتهاء في قلبي إزاءَ حادث استثنائي اسمه الإقترابُ منكَ، من الممكن أنْ أُلخّص معجزة لقائي بكَ من باب الإستحياء أو الجُبن أو الهروب من سحرك بوصف الإعجاب بكَ وحسب / الصفحة33 )). في القصة بوحٌ سامٍ أفلاطونيُّ الطبيعة وغزل بمحبوب من بلد آخر غير بلد القاصّة ولغته الأم لغة أخرى غير لغة العرب لكنه يفهم ويتكلم لغة العرب. بين ثنايا هذا الهوى الأفلاطوني الجارف نجد هنا وهناك غزلآً مكشوفاً من نوع البورنو قد يستكثره البعض على الدكتورة سناء الشعلان من قبيل :
(( ... لا قيمة لكل رجولتك ولسيفك الرجولي المثير إنْ لم أكنْ غمده الأبدي، لا قيمة لكلماتك إنْ لم يحسن ثغرك الكرزي المُشهّي تقبيلي، لا قيمة لأنوثتي إنْ لم تسعدك وتفتنك، وتمتصّك حتى آخرَ قطرة من رجولتك التي أراهنُ عليها بعمري وجلال افتناني / الصفحة 35 )). هل يحتاج هذا الكلام إلى تفسير ؟ جسدها غِمدٌ أبدي لعضو ذكورة عشيقها ... لسيفه الرجولي ! نعترفُ إنه تعبير جديد مُثير فيه شبق وإشارة وإثارة ولكن، ما عسى السيدة تتوقع من ردود أفعال زملائها الأساتذة وطلبتها في الجامعة الأردنية ؟ ألا تحسب لهم ولردود أفعالهم أي حساب ؟ أم أنه التحدّي ومناطحة الناس والسحاب و " أنا الغريقُ فما خوفي من البللِ " كما قال المتنبي ؟
سُدىً البحث عن الدوافع ثم تفسير هذه الظاهرة في ضوء ما نكتشف من دوافع ومحفّزات. تقوقعت سناء في قصتها هذه حتى نخاع العظم واحتمت بقبّة حلزون أو درع سلحفاة فلم تخرج عن عالم تعلّقها المجنون برجل ليس من قومها ولا من بلدها ولسانه الأصل غير لسانها، وقد كنا تعوّدنا أنْ نقرأها الإنسانة العربية والأممية المقدامة التي تناقش أموراً أخرى جليلة القيمة إنسانية الطابع والأهداف فكيف سجنت نفسها في زنزانة حب غير معروف وغير محسوب النتائج ؟
في قصتها هذه هي مُحبّة حقيقية وعاشقة حتى آخرَ نَفَس فما الذي منعها من أنْ تكشف أسباب فشل هذا الحب ؟ هل تؤمن بقوة سلطان الأقدار وما وقع لها في هذه القصة ومع هذا الرجل هو ضرب من ضربات القَدَر التي لا رادَّ لها ؟ لا يبدو أنها ندمت أو ستندم على توريط بطلة القصّة في مغامرة حب ليس صعباً معرفة خواتيمه ومآلاته. في أقدار الناس أحكام تظل مجهولة وتبقى عصيّة على التأويل والتفسير ويبقى المرء ذو العلاقة متأرجحاً بين قوتين وقطبين : الإرادة والصدفة.
غريبٌ أم غير غريب هو واقع القاصّة سناء التي ربما تعاني من ضغط وحصار العمر والإحساس بالعنوسة وما وجه الغرابة هذه ؟ يطلبون منّا أنْ لا نربط ما تكتب السيدات بواقعهن وأنْ لا نتفلسف ونثرثر ونسرف في محاولات الربط بين ما يقلن وما يعانين من مشاكل. يطلبون منّا التفريق بين ما تكتب القاصّة وما هي عليه من واقع حال. يطلبون منا تشريح وتحليل المكتوب كما هو بصرف النظر عمّن كتبت وقالت وعبّرت. مطلوب من وجهة نظر بعض الكتاب والمحللين والمُنظرين فك الربط بين الكاتبة وما كتبت. يقولون هذا بإسم حرية التعبير المطلقة وأنَّ من حق الإنسان أنْ يفكّر وأن يقول ويكتب كما يشاء دون ملاحقة ناقد ومحاسب ورقيب. لسنا ضد هذه المذاهب ولكن من حقّنا كمتابعين وقرّاء أنْ نسأل وأنْ نحاسب ونحلل ونستقرئ ونستنتج لأجل وضع الأمور في أنصبتها وسياقاتها الصحيحة وإحقاقاً للحق وانتصافاً للحقيقة. أرفض أنْ أكونَ أعمى أو مراقباً مخصيّاً مشلولاً أو نصف مثقف يداري ويخجل ويجامل ويُغضي حياءً وجبناً. بالنسبة لي إمّا أنْ أكونَ أو أنْ لا أكونُ كما قال هاملت في مسرحية شكسبير :
To be or not to be, that is the question
إني أربط وبإحكام بين كاتب النص وما يقول هذا الكاتب. النص هو كاتبه حتى لو انتحله. لذا فلا تستطيع الدكتورة سناء الشعلان التنصل من هذا النص وتدّعي أنه مجرد أخيلة فنية ومحض خيال أدبي لا علاقة لي به. إنه نص طريف متسربل بالعشق الأفلاطوني والعشق الجسدي الحارق وقد أجادت سناء في التعبير عنهما كليهما وبأساليب خاصة بها فإنها هي البارعة في كل صنف من صنوف العشق والتعلّق والهيام.
نقرأ ما قالت في الصفحة 40 :
(( ... يا إلهي كم سأكونُ أثرى امرأة في التاريخ البشري عندما تأخذني إلى صدرك عندما يتكسّر ثدياي على صدرك، عندما يتآلف كل نافر وبارز من جسدينا فيستقر كلٌّ منها في تجويف جسد الآخر ! كم سيكونُ فاتناً أنْ أشمَّ رائحة جسدك ! كم سيكونُ ساحراً أنْ تشمَّ رائحةَ شعر رأسي ! / الصفحة 40 )). تنضح هذه العبارات بالدفء والصِدق والتوق الجنسي الحارق. إنه الحرمان الجنسي يُنطقُ الكاتبة ويجأر فيها جسداً ثم روحاً فإنها أولاً وآخراً امرأة من لحم وعظم ودم.
ثمّةَ مسائل أخرى قد تكون جديدة على فن سناء في السرد القصصي منها أنها وظّفت في هذه القصة أشعاراً لبعض الشعراء فيها ما يتجاوب مع ما تعاني من لهيب حب عارم ساحق فلقد كتبت في آخر الصفحة 47 :
وإني لتعروني لذكراكَ هزّةٌ
كما انتفضَ العصفورُ بلّلهُ القطرُ
تكادُ يدي تندى إذا ما لَمَستُها
وينبتُ في أطرافها الورقُ الخُضُرُ
فيا حبّهُ زدني جوىً كلَّ ليلةٍ
ويا سلوةَ الأيامِ موعدُنا الحَشرُ
أتذكّرُ أنَّ هذا الشعر ـ لا يحضرني اسمُ قائله ـ كان من بعض مقررات درس الأدب العربي في مرحلة الدراسة الثانوية في العراق ... شكراً سناء أنك تُعيدين الحياة وجميل الذكريات فينا.
ثم إنها استعانت بواحدة من قصائد نزار قبّاني لأنَّ فيها الكثير مما تجد في نفسها من لواعج الشوق والصغار أمام مَنْ أحبّت فهي صغيرة وهو كبير وهي مجرد امرأة وهو أمير بل إنها جارية له وربما عبدة وقد قالت مثل هذا الكلام على الصفحة 45 :
(( ... أحبّني كثيراً لأحبّكَ أكثر ، كنْ سيّداً أكنْ لكَ جارية، كنْ لي سماءً حامية أكنْ لك أرضاً مُخلصة .. )). لفريد الأطرش أغنية يقول فيها : إنْ حبّيتني أحبك أكثر. هذا من بواقي تراث زمن الحريم القديم لا يليق بسيّدة عصرية وأستاذة جامعية فما أسباب هذا النكوص والرجعة لأزمان عفى عليها الزمن وداستها القرون ؟ لماذا تعود سناء لزمن عبودية المرأة للرجل الذي وقعت في غرامه ؟ ألأنها لم تجرّب الحب قبلاً ولماذا بحثت عنه في بلد غير بلدها ومع رجل من غير عنصرها ؟ أهكذا يفعل الحب بالمرأة الأفاعيل والأعاجيب ؟ أتذكر ما قال الفنان المصري محمود شكوكو في بعض أفلامه " الحبّ بهذلة".
ما الذي يجعلها تُذلُّ نفسها وترخّص كرامتها وعزة نفسها فتقول :
((ليتني قطتك المُدللة في هذه اللحظة لألعقَ أناملك المُبتلّة بماء الجوّافة، لأتمسّحَ بقدميكَ وأضع رأسي في حضنك دون رقيب أو عاذل أو حسود / الصفحة 53 )).
سناء والرغبة في التعرّي :
ترددت لفظة " العري " و " التعري " مِراراً في هذه القصة وسأستعير نماذجَ منها فهل تجد الكاتبة في هذا ثورة على حشمتها فيما ترتدي وعلى حرصها على إخفاء شعر رأسها وعدم التبرّج فيما تلبس ؟ إنها تعشق الخواتم الثمينة والأساور وربما قلائد الجيد :
(( ... ولكنْ من قال إنَّ النساء لا يتعرين إكراماً لشبقهنَّ وتهليلاً بلحظة العشق المشتهاة ؟ هنَّ فقط مَنْ يُدركنَ أنَّ العشق لا يُقابل إلاّ بعُريٍ أبديٍّ يحمل الجوع والإحتياج والحبور، كنتُ عارية إلى جنبك وكنتَ عارياً تماماً إلى جانبي، مسّدتَ عليَّ، لمستني، مال جسدك نحوي، شممتكَ على مهل واشتهاء، كنتُ أُدركُ أنني في فسحة من أمري، وأنك تهبني كلَّ ما أشاءُ من فرحة بجسدك العاري مثل جسدي العاري / الصفحة 46 )).
لم أُحصِ للأسف عدد المرات التي جاء فيها ذِكْر العُري والتعري فما دلالة ذلك وما حاجة الكاتبة للتعري لرجل ربطتها به علاقة قصيرة عابرة ؟ لا بأس من ذكر نماذج متفرقة لأبيّن عمق تعلّق الكاتبة بعملية التعرّي :
ـ ليلتها عدتُ إلى الفندق وجلستُ طوال الليل في سريري عارية / الصفحة41
ـ ولكنْ مَنْ قال إنَّ النساءَ لا يتعرين إكراماً لشبقهنَّ ... الصفحة 46
ـ تعرَ لي، فلا إمرأة غيري في الكون تنتظر توحشك وعُريك / الصفحة 52
ـ ... أبدأُ، أغتسلُ، وأتعرّى، وأتعطر وأستعد للبوح لك كي لا أموتُ قهراً وغيظاً / الصفحة 54
ـ لا أزالُ أكتب رسالتي إليك فهي عاجلة وإنْ لن تصلك، أطالع عريي مرّةً أخيرة قبل أنْ أرتدي ملابسي / الصفحة 55
هذا ما أحصيتُ وربما فاتني بعضٌ آخرُ من مشاهد العري والتعرّي وإذا كنتُ أجهل الأسباب فلربما غيري قادرٌ على التحليل والتفسير.
لا تُخفي سناء ما فيها وما تعاني وما تشعر به فهي مخلصة لذاتها ولا تخجل من البوح والكشف وقد أبدعت فيما باحت وكشفت ورسمت صوراً مُذهلة ومواقف عزَّ نظيرها فارفعوا قبّعاتكم في حضرتها أيها الرجال. هي حرّة في أنْ تقول ما تود وما تريدُ أنْ تقول وإصرارها على الكشف والبوح يستحق الإعجاب فهي مخلصة لنفسها وأمينة مع القارئ وقوية الشخصية والإرادة تقول للناس يا ناس : هذه أنا إمرأة مثل حوّاء لي ما للنساء وعليَّ ما عليهن. إيها الناس ها أنا عارية أمامك كما ولدتني أمي لا أُخفي عنكم شيئاً ولا أُداري ولا أخجل من نفسي ومما أعاني من أحوال بشرية لا مُناص من معاناتها ومنها الحب. ويظل تقويم هذه المسألة موضع نقاش وجدل وأخذ ورد.
أخيراً وبعد أنْ فلتت من بين كفيها أزمّة أمورها فطافت محلقة بين سماء غير سمائها وأرض ليست لها اختارت أنْ تستعين على ضعفها بإحدى أغنيات فيروز فذكرتها مُطوّلة لا سدّاً لفراغ إنما لتفريغ شحنة ضاغظة أخرى تضيق عليها أنفاسها / الصفحتان 56 ـ 57 وتختتم القاصة قصتها هذه بالقول :
( يا إلهي كم أنا ضائعة الآن يا سيّد الجبل )..
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر